[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٢١
( (د. معتصم خميس مشعشع
* اثبات الجريمة بالأدلة العلمية
من
من غير الممكن إنكار آثار التطور العلمي والتكنولوجي على القانون الجزائي، وعلى
وجه الخصوص عندما يتعلق الأمر بنظرية الإثبات الجزائي. والحق أن مبدأ حرية الإثبات
الذي هو الركيزة الأساسية التي تقوم هذه النظرية عليها، يسمح باستخدام واسع للأدلة
ً عندما يترتب
ً مهما
ً تحديا
العلمية في الإثبات الجزائي؛ بيد أن مثل هذا الاستخدام يمثل أيضا
عليه المساس ببعض الضمانات الإجرائية التي تعد من ضمانات المحاكمة العادلة. فالتوازن
بين مصلحة المجتمع في مكافحة الجريمة ومصلحة الفرد بأن تبقى حقوقه الأساسية
مصانة يمثل جوهر الإشكالية التي تتناولها هذه الدراسة. فمن ناحية تتناول تطبيق مبدأ
حرية الإثبات في نطاق الأدلة العلمية، ومن ناحية أخرى تتناول التضييق الواجب في تطبيق
ً
هذا المبدأ عندما ينطوي الدليل على إهدار حق من حقوق الإنسان، حيث لايكون ممكنا
استبعاد هذه الدليل بصورة آلية وبشكل مطلق تحت ذريعة صيانة حقوق الإنسان؛ وذلك لأن
مثل هذا الاستبعاد سيؤدي لإهدار مصلحة المجتمع في مكافحة الجرائم، وعلى وجه
ً يهدد مصلحة المجتمع بأسره.
ً شاملا
الخصوص الخطيرة منها، أي عندما تمثل تلك خطرا
* أجيز للنشر بتاريخ .٢٠١٢/٦/٣ ( (أستاذ القانون الجزائي المشارك–جامعة آل البيت- كلية القانون- المملكة الأردنية الهاشمية
ovfÖ]“~×Ú
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٢٢
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
موضـوع الأدلـة الجزائيـة مـن المواضـيع التـي هـي فـي تطـور مسـتمر. ويظهـر صـدق هـذه
الملاحظة سواء أتعلقت بالدليل نفسه، أم بوسائل الوصول إلى الدليل.
والحق أن رغبة الإنسان في الوصول إلى حق، تمثلا يعتورها شك هـي السـبب الأهـم الـذي
ً الغايـة
أبقى موضوع الدليل في حراك مستمر؛فالرغبة في الوصول إلى هذه الحقيقـة كانـت دومـا
القصوى التي يراد من الأدلة تحقيقها.
ويعلمنا تـاريخ الإجـراءات الجزائيـة أن تبـدل أدلـة الإثبـات التـي سـعت المجتمعـات الإنسـانية
كافة إلى اعتمادها لإثبات الجرائم يعود إلى التغيير في معتقدات هذه المجتمعات حـول الحقيقـة
،ً تمثـل الـدليل فـي حكـم الآلهـة التـي (١) والوصـول إليهـا
ً دينيـا
ً عنـدما طبـع الـدليل طابعـا
. فقـديما
يطلب منها أن تظهر من الإشارات التي تدل على الجـاني مرتكـب الجريمـة وتسـمح بإدانتـه. ثـم
مـع ظهـور نظـام الإثبـات القـانوني، الـذي بـرز فـي ظـل الإمبراطوريـة الرومانيـة, غـدا الاعتـراف
ســيد الأدلــة. وكانــت الإجــراءات التــي قامــت فــي ذلــك العصــر علــى النظــام التفتيشــي، تشــرع
اسـتعمال التعـذيب مـن أجـل اسـتخراج هـذا الاعتـراف ممـن يعتقـد بأنـه مرتكـب الجريمـة. ودفعـت
ردة الفعل على القسوة التي سادت العصور القديمـة إلـى ظهـور عصـور سـادتها اتجاهـات أكثـر
ً . إنسانية، فشهدت هذه العصـور تكريسـ للحكـم الجزائـي المبنـي علـى القناعـة الوجدانيـة للقاضـي
ا
وأمـا آخـر مراحـل تطـور الـدليل فتمثلـت بمـا يمكـن أن يطلـق عليـه مرحلـة الـدليل العلمـي، هـذه
المرحلـة التـي يشـهد بـداياتها عصـرنا الحـالي، وسـتحكم علـى مـا يعتقـد كثيـرون، مسـتقبل نظريـة
الإثبات.
(1) BOUZAT P. , ” La loyaute dans la recherche des preuves, Melanges Hugueney, Sirey 1964, p.
157, no. 3
V íڂϹ]
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٢٣
ً
وقـد ارتـبط، كمـا أسـلفنا، تطـور البحـث عـن الوسـائل التـي تصـلح للإثبـات الجزائـي ارتباطـا
ً فـي الحاجـة للوقـوف علـى الحقيقـة المتعلقـة بالجريمـة والمجـرم. وعلـى الـرغم مـن أن مبـدأ
وثيقـا
حريـة الإثبـات الـذي يعـد حجـر الزاويـة فـي البنـاء الـذي تقـوم عليـه نظريـة الإثبـات الجزائـي، هـذا
المبدأ الذي يعني أنه ليس لدليل قوة في الإثبات أكبر من تلك التي تكون لغيره من الأدلة، فـإن
ضرورة الوقوف علـى الحقيقـة كانـت تستحضـر علـى الـدوام، علـى المسـتوى النظـري أو الفلسـفي
:ً ألا يمكــن الاعتقــاد بــأن لــدليل أن يتميــز علــى غيــره بمقــدرة
علــى أقــل تقــدير، تســاؤلا مشــروعا
خاصة في إثبات الحقيقة؟ وعند إجابة هـذا التسـآول بالإيجـاب يظهـر التسـاؤل المنطقـي الآخـر:
ما هو هذا الدليل؟
ً
والحــق أنــه بالإمكــان، مــن منظــور تــاريخي علــى الأقــل إجابــة تســاؤلنا بالإيجــاب. فقــديما
سـيدت الأنظمـة القانونيـة الاعتـراف علـى الأدلـة كافـة. ويشـهد واقـع الـدعوى الجزائيـة فـي وقتنـا
الراهن أهمية الاعتماد على الشهادة في الإثبات. وبسبب التطـور العلمـي فـإن القـرائن هـي التـي
ً
. (٢) ستحوز على جل الثقة في الإثبات مستقبلا
بيد أن هذا القول بحاجة إلى بعض تدقيق.
ً القول بأن الاعتراف احتل في الماضي مكان السيادة فـي مواجهـة الأدلـة
فإذا كان صحيحا
ً بشـكل الأخـرى، غيـر أن الشـك بصـدق الاعتـراف شـك
،ً ولـم يكـن مسـتبعدا
ل علـى الـدوام هاجسـا
. (٣) مطلق التوجس في أن يكون الاعتراف وليد ضغط أو إكراه
ً الحيــز الأهـــم مــن التنظـــيم الإجرائــي الجزائـــي
ً أن الشـــهادة تحتــل حاليـــا
وصــحيح أيضــا
، وأن خشــية اللجــوء إلــى الإكــراه مــن أجــل الحصــول علــى الشــهادة أقــل منهــا فــي (٤) للإثبــات
(2) PRADEL J. ,Procedure penale,CUJAS, 10 eme ed. ,2001, p. 332,no. 387
ٕ (٣) ذا لم
وهذه الحقيقة هي التي تفسر لنا سبب ترك المشرع للمحكمة كامل سلطتها في الاقتناع بالاعتراف، “وا
تقنع المحكمة بالاعتراف تشرع في الاستماع إلى شهود الإثبات” المادة (٤/٢١٦) من ق. إ. ج. أ.
(٤) من بين ثماني عشرة مادة وردت تحت عنوان البينات (المواد من ١٤٧ إلى ١٦٥) خص المشرع الشهادة
بتسع مواد تنظم أحكامها.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٢٤
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
الوصـول إلـى الاعتـراف. ولربمـا كانـت هـذه الحقيقـة وراء الـنص علـى أنـه يتعـين علـى المحكمـة
. لكـن بالإمكـان (٦) أن تشـرع فـي الاسـتماع إلـى شـهود الإثبـات (٥) التي لم “تقنـع بـاعتراف المـتهم”
ً بصدق الشهادة. ويعود سبب ذلك إلى جملـة عوامـل قـد يمثـل ضـعف إدراك الشـاهد
الشك أيضا
أو تعمده الكذب أهمها.
ولكــل مــا تقــدم مــن أســباب وحقــائق أصــبح الــبعض يعبــر عــن الأمــل فــي أن تصــبح القــرائن
المستخلصـة بـالطرق العلميـة وسـيلة الإثبـات التـي تبنـى عليهـا الأحكـام الجزائيـة. فيسـتند هـؤلاء إلـى
القول بأن ما يميز هذا النوع من القرائن عن أدلة الإثبات الأخرى هو عدم إمكانيـة كـذب هـذا النـوع
من الأدلة. غير أن هذا الرأي لا يخلو من مبالغة من ناحية الدور الذي يمكن أن تؤديه القرائن في
ٕ الإثبات. فيتعين التأكيد على أن الأمر يتعلق بالقرائن، والقرينة دليل غير مباشر. ذا كانت القرينـة
وا
، ومـن أجـل اسـتنطاق القرينـة يتعـين (٧) لا تكذب فهـذا لأنهـا فـي الحقيقـة لا تفصـح بـذاتها عـن شـيء
الاسـتعانة بـالخبراء أو إعمـال الاسـتنباط العقلـي، وكلتـا الوسـيلتين لا تقـدم ضـمانة أكيـدة بـأن الحكـم
المبني على القرينة يتضمن حقيقة كاملة لا يمكن أن يعتورها شك.
ً من أوجه تأثير التطور العلمـي والتكنولـوجي
وتتجلى أهمية الجدل السابق في أنه يجسد بعضا
في القانون الجزائي، ويظهر عديد الإشكاليات القانونية التي يمكن أن تترتب على ذلك.
فيطرح التقدم العلمي والتكنولوجي تحديات كبيرة ويثير تساؤلات مهمة في نطاق القانون
الجزائي بشقيه الموضوعي والإجرائي.
ً ل مدى قابلية نص التجريم التساؤل حو
فمن جهة القانون الجزائي الموضوعي يبقى دائما
للتطبيق- دون إخلال بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات- على فعل استخدم الجاني في ارتكابه
وسيلة تقنية لم تكن معروفة حينما شرع هذا النص وأصبح نافذا. ً
(٥) المادة (٢١٦) ق. إ. ج. أ
(٦) المادة (٤/١٧١) ق. إ. ج. أ
RASSAT M-L, Procedure penale, PUF,2eme ed. ,1995,p. 325,no. 206. (7)
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٢٥
ً إلى مبدأ
ومن ناحية القانون الجزائي الإجرائي يثور التساؤل حول إمكانية الركون دائما
حرية الإثبات لقبول أي دليل يستند إلى اكتشاف علمي أو تقني مستحدث. فإلى أي مدى
تجيز حرية الإثبات اللجوء إلى الوسائل العلمية حتى عندما يترتب على استخدامها اعتداء
. (٨) على حقوق أساسية للإنسان
ً في اتجاه كثير من الدول نحو الرفع من شأن
وبإمكان المراقب أن يلحظ التنامي حاليا
ً البحث
ضرورة إثبات الجريمة، ٕوان تتطلب ذلك التجاوز عن بعض المبادئ التي حكمت تقليديا
ً على
ً عن الدليل. فازدياد نسبة الجرائم، وارتفاع حجم خطورتها، شاملا
كتلك التي تحمل اعتداء
مصالح المجتمع، مثل الإرهاب أو الاتجار بالمخدرات أو غيرها من الجرائم العابرة لحدود
،ً دفع في اتجاه تنامي الفكرة التالية: ضرورة الوصول إلى الدول، والتي ت
ً حاسما
مثل عاملا
الحقيقة تسمح بالتجاوز عن بعض المبادئ الإجرائية التي تعتبر ضمن المعايير التي يقوم
. (٩) عليها مفهوم المحاكمة العادلة
ٕ وقد يعتقد البعض أن هذه الظاهرة ليست في حقيقتها حديثة، نما هي مجرد تطبيق
وا
ً الإثبات الجزائي: قرينة للعلاقة القائمة بين المبدأين الأساسيين الل نظرية
ذين يحكمان تقليديا
البراءة وحرية الإثبات؛ حيث يضطلع المبدأ الثاني بتصحيح صعوبة الإثبات التي قد تنجم عن
؛ لذا كلما زادت صعوبة الإثبات تطلب الأمر بالمقابل تساهلا أكبر في (١٠) تطبيق المبدأ الأول
. (١١) البحث عن الدليل
AMBROISE-CASTEROT. Recherch et administration des preuves en procedure penale: (8)
la quete de la verite,A. J. pen. 2005,no. 7-8, p261.
ً لهذا المفهوم لكي يشمل جميع
(٩) نقصد المفهوم الواسع للمحاكمة العادلة، حيث يتسع مصطلح المحاكمة وفقا
مراحل الدعوى بما فيها تلك السابقة على مرحلة المحاكمة.
(١٠) تعني قرينة البراءة تحمل المدعي عبء إثبات الإدانة. فلا ينحصر إذن – ضمن هذا المفهوم- تطبيقها في
القانون الجزائي وا . ٕ نما يمتد التطبيق للقوانين الأخرى طالما كان على المدعي إثبات ادعائه
ً من عبء إثبات المسائل الأخرى، وذلك
غير أن عبء إثبات المسائل الجزائية يبدو على العموم أكثر ثقلا
بسبب تطبيق قاعدة أن الشك يفسر لمصلحة المتهم.
(11) AMBROISE-CASTEROT,op. cit.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٢٦
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
غير أن هذه العلاقة الطردية بين المبدأين، والجدلية التي تحكم تطبيقهما، ليست منفلتة من
ٕ أي عقال، نما لا بد أن يحكمها تحقيق التوازن بين طرفي الدعوى: المجتمع الذي يقع عليه عبء
وا
الإثبات، والفرد الذي تجري ملاحقته؛ حيث يؤدي القول بحرية إثبات مطلقة إلى إهدار، أو
انتقاص، من ضرورة أن تكون المحاكمة عادلة، وذلك بسبب الاختلال الواضح في ميزان القوة بين
الوسائل التي يملكها المجتمع للإثبات، وتلك التي تكون بحوزة الفرد لدفع التهمة.
وبالإضافة إلى هذا التساؤل المحوري الذي يدور حول جواز التضحية بحقوق الأفراد تحت
ً البحث
ذريعة البحث عن الحقيقة، تطرح مجموعة من التساؤلات الأخرى؛ أهمها: هل يساهم فعلا
ٕذا كان للتقدم العلمي الأثر
عن الدليل من خلال وسائل تفتقر للنزاهة في الوصول إلى الحقيقة؟ وا
الأكبر في دعم الاتجاه نحو البحث عن الحقيقة المطلقة التي لا يعتورها الشك، أفلا توجد مخاطر
قد تترتب على سيادة الاعتقاد بالحقيقة العلمية المطلقة؟
ً إلى فرضين،
وترمي هذه الدراسة إلى الإجابة عن هذه التساؤلات، وسنعمل على ذلك استنادا
هما:
ً اتساع
الفرض الأولى: التطور الحاصل في أدلة الإثبات، حيث ينجم عن هذا التطور أولا
حجم الأدلة التي غدت مقبولة في الإثبات الجزائي. ومعلوم أن السبب الرئيسي وراء هذه الصورة
من التطور هو التقدم العلمي والتقني. ولانرمي من خلال هذا الفرض، إلى دراسة وسائل الإثبات
ٕ العلمية لذاتها، فقد تناولت هذه المسألة العديد من الدراسات والأبحاث ا والمؤتمرت العلمية، نما
وا
نرمي إلى تناول وسائل الإثبات العلمية من خلال مساسها بحقوق الإنسان كالحق في الحياة
الخاصة والحق في حرمة الجسد. وسيتم ذلك من خلال افتراض قبول الأدلة العلمية في الإثبات
ً لمبدأ حرية الإثبات.
استنادا
الفرض الثاني: التغيير في المبادئ التي تحكم وسائل الحصول على الدليل. فالتطور في اتساع
حجم أدلة الإثبات واكبه تغيير طال وسائل الحصول على هذه الأدلة. ونرمي من خلال هذه الدراسة
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٢٧
إلى بيان الحدود التي يتعين على وسائل البحث عن الدليل الوقوف عندها كي لا تغدو هذه الوسائل
ً يبيح إهدار الحقوق الأساسية التي يجب أن يتمتع بها الأفراد.
سببا
ً للغايات التي تتوخاها الدراسة، تقسيمها إلى قسمين. يتناول أولهما الأدلة العلمية
ونرى تحقيقا
المقبولة وحدود مقبوليتها، وذلك من خلال دراسة مبدأ حرية الإثبات (المبحث الأول). ويدرس ثانيهما
القيد الأهم الذي يتعين مراعاته للحد من سلبيات حرية الإثبات عندما تتعلق المسألة بالأدلة العلمية،
ونقصد هنا مبدأ النزاهة (المبحث الثاني).
المبحث الأول
حرية الإثبات
ً أن
ً الإثبات في المسائل الجزائية حر. غير أنه ليس متوقعا
جرت العادة على القول دوما
أن يجري هذا القول على إطلاقه. فلا يتصور، في دولة القانون، عدم إخضاع الدليل للقانون؛
. (١٢) لذا لابد أن تتسق حرية الإثبات مع مبدأ آخر لا يقل أهمية، هو مشروعية الدليل
فإذا كان بالإمكان القول إنه يمكن الركون لأي دليل في إثبات المسائل الجزائية (المطلب
الأول)، فإن ذلك لا يعني أنه يمكن البحث عن الدليل بأية طريقة كانت (المطلب الثاني).
المطلب الأول
الإثبات حر
إثبات الجريمة وا ، بحسب ٕ ، سنادها لمرتكبها (١٣) يقوم، في نطاق الدعوى العمومية
، بطرق الإثبات كافة. فمن خلال صياغة عامة وقاطعة تنص المادة (٢/١٤٧) من (١٤) الأصل
ق. أ. م. ج. على أن البينة : “تقام في الجنايات والجنح والمخالفات بجميع طرق الإثبات”.
،ً بصورة عامة، في مناسبة دراسة القيود التي تحد من مبدأ القناعة الوجدانية، الذي يهيمن على
(١٢) يجري أيضا
سلطة القاضي الجزائي في تقدير الأدلة، القول بأنه يقع ضمن هذه القيود ضرورة أن يكون البحث عن
الدليل بوسائل تحترم حقوق الدفاع.
PRADEL J. , op. cite,p. 681,no,785:انظر
(١٣) تقف حرية الإثبات عند حدود الدعوى العمومية. أما بالنسبة للادعاء الشخصي المقام أمام القضاء الجزائي
فإنه يخضع لقواعد الإثبات الخاصة به. (المادة ١٤٩ ق. أ. م. ج. ).
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٢٨
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
ً إلى حرية الإثبات كل ما يصلح للإثبات جاز إذن استخدامه
. الأمر الذي (١٥) فاستنادا
يعني من الناحية النظرية، أن أي تعداد لما يمكن أن يعد ضمن الأدلة التي يصلح استخدامها
في إثبات المسائل الجزائية لن يتضمن سوى أهم الأدلة؛ وما قيام المشرع بالنص على القواعد
الخاصة بالأدلة، وتناول فقه الإجراءات الجزائية بالشرح لأحكامها، سوى تناول جزئي لا يطال
ً في زمن معين.
سوى الأدلة الأكثر استخداما
ً على دليل بالاستبعاد، أو منح
وتعني حرية الإثبات كذلك أنه ليس بالإمكان الحكم مسبقا
أي دليل قوة تضفي عليه مكانة تمكنه من أن يسمو على باقي الأدلة.
ويستند مبدأ حرية الإثبات إلى مجموعة مبررات يصعب معها تصور إمكانية التخلي عن المبدأ.
فمن ناحية، لا تتسق طبيعة الوقائع الجزائية موضوع الإثبات مع إمكانية إعداد الدليل
ً المسبق، وذلك ا عن إثبات المسائل المدنية
ً إلى أن الدعوى الجزائية، في (١٦) ختلافا
. فاستنادا
ً الإثبات
حقيقتها عبارة عن خصومة بين المجتمع وفرد، فقد ظهر مبدآن إجرائيان طبعا تقليديا
. (١٧) الجزائي وميزاه عن الإثبات المدني، وهما: قرينة البراءة القانونية، وحرية الإثبات
ومن ناحية أخرى، فإن مبدأ حرية الإثبات يحقق مصلحة المشتكى عليه، حيث يتيح له
إمكانية الدفاع عن نفسه بالطرق كافة.
. فستفقد (١٨) غير أن الأهم من هذين المبررين ذلك الذي يستند إلى فاعلية العدالة الجزائية
هذه العدالة فاعليتها، وستتجرد من أسلحتها في مواجهة مجرمين يرتكبون على الأغلب
(١٤) تنص الفقرة الثالثة من المادة (١٤٧) من ق. أ. م. ج. على أنه ” إذا نص القانون على طريقة معينة
للإثبات وجب التقيد بهذه الطريقة”. وقد تضمن القانون العديد من الجرائم التي يخضع إثباتها لمبدأ الإثبات
القانوني.
(15) RASSAT M-L, op. cit. p. 324,no. 206
(١٦) يمكن أن يعد على الأغلب، دليل إثبات الوقائع المدنية قبل وقوع نزاع بشأنها.
(17) BOUZAT P. op. cit. , p. 157
(18) GUINCHARD S. & BUISSON J. , Procedure penale, Litec, 2eme ed. , 2002, p. 458, no. 441.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٢٩
ً عن أعين السلطة العامة، ويسعون إلى استخدام جميع الوسائل الممكنة من أجل
جرائمهم بعيدا
طمس ما يمكن من الأدلة التي تؤدي إلى إدانتهم، إذا انعدمت إمكانية إثبات الجرائم ٕواسنادها
ً مهمة (١٩) إلى مرتكبيها بجميع طرق الإثبات
. وستغدو عملية مكافحة الجريمة عمليا
ً لأدلة التي يمكن الأخذ بها. ا (٢٠) مستحيلة
إذا خضعت الأدلة لنظام صارم يحدد مسبقا
ً نتيجتان: أولهما، حظر فرض أدلة معينة (الفرع الأول)،
ويترتب عن كون الإثبات حرا
وثانيتهما، حظر استبعاد أدلة معينة (الفرع الثاني).
الفرع الأول
حظر فرض أدلة معينة
ً في مقبولية الأدلة جميعها في الإثبات. الأمر الذي يعني حظر
تتمثل حرية الإثبات أساسا
فرض أدلة معينة وتقييد الإثبات بهذه الأدلة؛ حيث لا يتسق مثل هذا الفرض مع كون الإثبات
حر، غير أن عدم جواز فرض أدلة معينة هو منع للقاضي ولا يقيد المشرع.
ً هو مرحلة المحاكمة، فالنص عليه قد ورد في
ومكان تطبيق مبدأ حرية الإثبات أساسا
الكتاب الثاني من قانون أصول المحاكمات الجزائية المخصص للمحاكمات. غير أن تطبيق
ٕ نما يمتد التطبيق إلى مرحلة ما قبل
المبدأ لا ينحصر في هذه المرحلة من مراحل الدعوى وا
. ويترتب (٢١) المحاكمة. ويعود سبب ذلك إلى أن نظرية الإثبات واحدة في مراحل الدعوى كافة
على ذلك أنه يحظر على القاضي وكذلك على النيابة العامة ومأموري الضابطة العدلية فرض
أدلة معينة.
وأما بالنسبة للمشرع فله الخروج عن حرية الإثبات من خلال تقييد إثبات جرائم معينة
بأدلة يحددها. فالفقرة الثالثة من المادة (١٤٧) من ق. أ. م. ج. تنص على أنه: “إذا نص
(19) PRADEL J. , op cit. , p. 332, no. 387. ; RASSAT M-L, op. cit. , p. 324, no. 205.
(20) MERLE R. & VITU A. , Traite de droit criminel, T. 2, Procedure penale, CUJAS, 6eme
ed. , 1984, p. 161, no. 128.
(21) GUINCHARD S. & BUISSON J. , op. cit. , p. 459, no. 443.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٣٠
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
القانون على طريقة معينة للإثبات وجب التقيد بهذه الطريقة”. وقد تضمن قانون العقوبات
العديد من النصوص التي تقيد حرية الإثبات، كما هو الحال بالنسبة لإثبات جريمة الزنا على
. (٢٢) سبيل المثال
وبما أن تقييد المشرع لحرية الإثبات هو خروج عن الأصل القاضي بحرية الإثبات في
ً
،ً وامتناع تفسيره أينما ورد تفسيرا
ً مضيقا
المسائل الجزائية، فيتعين –إذن- تفسير القيد تفسيرا
.ً
موسعا
ً إلى هذه الحقيقة فإن قضاء محكمة النقض الفرنسية يذهب إلى أنه لا يترتب على
واستنادا
تعيين المشرع أدلة محددة في إثبات جريمة معينة الامتناع عن استخدام أدلة أخرى في إثباتها،
ً إلا في
. وقد طبق القضاء الفرنسي هذا (٢٣) الحالة التي يمنع نص القانون ذلك صراحة
. وذهب في إحدى القضايا إلى استنباط النتيجة التالية: إن (٢٤) الاجتهاد في العديد من القضايا
نص المشرع على إثبات الجريمة بواسطة الضبوط التي يعدها الموظفون المخولون صلاحيات
الضابطة القضائية بالنسبة للجرائم التي كلفوا بإثباتها بموجب أحكام القوانين الخاصة
(الضابطة القضائية الخاصة)، لا يمنع من إثبات هذه الجرائم من خلال الضبوط التي تنظمها
. (٢٥) الضابطة القضائية العامة
وصفوة القول، أن مبدأ حرية الإثبات يتمتع بقوة تجعل النص التشريعي الذي يقيد من هذا
. (٢٦) المبدأ، من خلال حصر الأدلة المقبولة في إثبات جريمة معينة، مجرد نص استرشادي
(٢٢) المادة (٢٨٢) من قانون العقوبات.
(23) Cass. Crim. 28 nov. 2001, Juris-Data no. 012603
(٢٤) من القضايا التي طبقت فيها محكمة النقض التفسير الضيق للقيد على حرية الإثبات ما تعلق بقيادة المركبة
تحت تأثير المسكرات. فعلى الرغم من أن قانون السير يتطلب فحص السائق ثم التحقق من حالة السكر =
= لإثبات هذه الحالة، فإن محكمة النقض ترى أن “عدم مراعاة ما يتطلبه القانون لا يحول دون اعتماد
القاضي وسائل أخرى لإثبات ما إذا كان بالإمكان إدانة المتهم بجنحة القيادة في حالة سكر”
Cass. crim. 24 Janv. 1973, D. 1973, 240; 6 Oct. 1987, Inf. rap. 228.
(25) Cass. Crim. 25Fev. 1986, B. C. , 73.
(26) GUINCHARD S. & BUISSON J. , op. cit. , p. 460, no. 444.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٣١
الفرع الثاني
حظر استبعاد أدلة معينة
قبول كل دليل يحتمل أن يساهم في إثبات الجريمة وا ، ٕ تعني حرية الإثبات سنادها لمرتكبها
ت إمكانية تقديم الأدلة كافة أمام المحكمة الجزائية. وليس للقاضي أن يستبعد ُ أي يجب أن تاح
ً قبل فحصه، ما دام أن هذا الدليل قد يساهم في إثبات الدعوى المقامة أمامه.
أي دليل مسبقا
وحظر استبعاد القاضي الجزائي للأدلة المقدمة أمامه يطال، بحسب أحكام محكمة النقض
الفرنسية، الأدلة التي يقدمها الأفراد حتى إن كانت وسيلة الحصول على هذه الأدلة غير
، فما يتعين على القاضي القيام به –إذن- هو تقدير القيمة (٢٧) مشروعة، أو شابها عدم النزاهة
. (٢٨) الثبوتية لهذه الأدلة
يذهب، ويؤيده في ذلك بعض شراح القانون إلى (٢٩) غير أن بعض الاجتهاد القضائي
القول بعدم قبول، و استبعاد اللجوء إلى قسم مما يطلق عليه (وسائل الإثبات الحديثة أو الأدلة
. (٣٠) العلمية)
ويستند القضاء والفقه الرافضان لهذه الأدلة إلى أسباب عديدة تدور إما حول أن النتائج
المترتبة على استخدام بعضها مشكوك في دلالتها، أو أن استخدام قسم منها ينتقص من
الاحترام الواجب لكيان الإنسان، أو على الأغلب لاجتماع السببين فيها.
ونرى أن هذا القول يخلط بين وضعين مختلفين دون التفرقة بينهما. فهو يطال ما يمكن
ً على صدق دليل إثبات.
ً ما يمثل في حقيقته حكما
،ً ويطال أيضا
أن يعد دليلا
ً ص (٢٧) وما يليها.
(٢٧) انظر لاحقا
(28) Cass. Crim. , 6 Avril 1994, B. C. , no. 136; 9 Janv. 1999, B. C. , no. 9.
(29) Cass. Crim. 12 dec. 2000, J. C. P. , 2001. 10495, note PUIGELIER; 28 nov. 2001,
B. C. , 248
(30) RASSAT M-L. , op. cit. , p. 327, no. 207.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٣٢
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
فلاستخدام جهاز كشف الكذب فائدة لا تنكر من ناحية تزويد المحقق بمقدمات مهمة
تمكنه من توجيه التحقيق الوجهة الأمثل إذا جرى إخضاع المشتبه به، خلال الاستجواب أو
. لكن ما يعترض، بصورة أساسية، على (٣١) الاستماع إلى الإفادة، للفحص بواسطة هذا الجهاز
. (٣٢) استعمال الجهاز خلال التحقيق هو عدم الثقة في النتائج التي تترتب على هذا الاستعمال
وذلك أن وظيفة جهاز كشف الكذب تتمثل بتسجيل المؤشرات الفسيولوجية للشخص
عادة اضطرابات فسيولوجية تحدث عند الشخص ً الخاضع للفحص. وبما أنه ترافق الكذب
،ً من خلال استقبال هذه التغيرات الفسيولوجية
الذي يتعمد الإدلاء بقول كاذب فإنه يغدو ممكنا
ورصدها، تقرير كذب أو صدق هذه الأقوال. بيد أنه إذا كان بإمكان جهاز كشف الكذب
كشف الانفعالات التي تحدث لدى الأشخاص الذين يجري إخضاعهم للفحص فإن الجهاز لا
. (٣٣) يصلح لكشف الكذب
وبناء لى ما تقدم فإنه يصعب القول بأن النتائج التي يتم الحصول عليها من خلال ً ع
ً الكذب. فيختلف الحكم على هذه أو قرينة على
جهاز كشف الكذب تصلح لأن تكون دليلا
النتائج بحسب طبيعة التكوين النفسي للشخص الذي يخضع لفحص الجهاز. فإذا كان هذا
الشخص ذا طبيعة انفعالية أمكن للجهاز أن يسجل انفعالاته دون أن يدلي بأقوال كاذبة.
وكذلك إذا كان هذا الشخص ممن يوصفون بالقدرة على السيطرة على انفعالاتهم فإنه سيكون
بإمكانه الكذب دون أن يتمكن الجهاز من تسجيل انفعالات خاصة لديه.
ً إلى عدم الثقة
وا بالنتائج التي يؤدي إليها استخدام جهاز كشف الكذب فإن البعض ٕ ضافة
ً إلى أن عمل الجهاز يعتمد على
يعترض على استعماله في نطاق الإثبات الجزائي استنادا
(31) PRADEL J. , op. cit. , p. 371, no. 430.
(32) SUSINI J. , Place et porte du polygraphe dans la recherche judiciaire de la verite, R. I. D. P. ,
1972, p. 255.
(33) AMBROISE-CASTEROT C. , La prevue: Une question de loyaute?, A. J. Pen. , 2005, no.
7-8, p. 261.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٣٣
تسجيل انفعالات تخرج عن سيطرة إرادة صاحبها الذي يخضع للاستجواب، الأمر الذي
. (٣٤) يتعارض مع حقوق الدفاع
ً الإثبات بواسطة اعتراف المشتبه به الذي يؤديه تحت
ويعترض هذا الرأي الأخير أيضا
ً اصطناعيا وتضعف
تأثير التنويم بالإيحاء، أو من خلال استعمال المواد التي تسبب نوما
ً الإرادة، أي من خلال استعمال ما يتعارف على تسميته “مصل الحقيقة”. الحصول
فليس مقبولا
على اعتراف بارتكاب جريمة من خلال إضعاف قدرات المشتبه به بواسطة حقنه بمواد مخدرة
أو استعمال طرق علمية أخرى من قبل رجال السلطة العامة. ولا يغير في الأمر أن يقع
استعمال هذه الطرق بموافقة المشتبه به، فلا تأثير للقبول عندما يتعلق بالتنازل عن حقوق
ً الاعتقاد بأن كل ما يمكن أن يدلي به (٣٥) أساسية
. ويضاف إلى ذلك القول بأنه ليس دقيقا
شخص وهو تأثير التخدير أو فاقدا ، فاحتمال ألا يتطابق ً السيطرة على تصرفاته يطابق الحقيقة
ً
. (٣٦) ما يدلي به الشخص الذي يكون في مثل هذه الحالات مع الحقيقة يبقى قائما
ويتعين ألا نستنتج من الحقائق السابقة أن البحث عن الحقيقة باستخدام الوسائل العلمية
ً من حيث المبدأ في المسائل الجزائية، بل إن العكس هو الصحيح،
هو ما يلقى اعتراضا
ً في النطاق الجزائي، حتى أنه لا ينتقص من
ً واسعا
فالإثبات من خلال هذه الوسائل يلقى قبولا
. (٣٧) قيمة الدليل العلمي أن تكون وسائل قسرية قد استخدمت في الحصول عليه
فاستخدام التصوير أو الرادار لإثبات بعض جرائم السير، وتحليل الدم أو البصمة أو
. (٣٨) التصوير وغيرها من الوسائل العلمية أو التقنية في إثبات الجرائم ليس محل اعتراض
(34) RASSAT M-L. , op. cit. , p. 328, no. 20.
(35) AMBROISE-CASTEROT C. , op. cit. , p. 263
(36) RASSAT M-L. , op. cit. , p. 328, no. 207.
ً ص (١١) وما يليها.
(٣٧) انظر لاحقا
(٣٨) انظر على سبيل المثال المادتين ١٠٩ و١١٠ من ق. أ. م. ج. اللتين تجيزان أن يتم إثبات هوية السجناء،
وهوية من “اتهم بارتكاب جرم” باستخدام بصمات الأصابع أو التصوير أو بأية معاملة أخرى قد تعين
لتأمين إثبات الهوية.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٣٤
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
وبقي أن نقول إن الصفة العلمية للدليل ليست هي السبب الذي يبرر استبعاده من وسائل
ً مثل هذا الاستبعاد مع مبدأ حرية الإثبات. نما السبب الرئيسي
ٕ الإثبات، حيث يتعارض حتما
وا
وراء استبعاد العديد من الأدلة العلمية هو عدم الثقة في النتائج التي تؤدي إليها هذه الأدلة،
أي عدم الثقة في الدليل هو الذي يجيز رفض استخدامه في الإثبات. وعلى العكس من ذلك
ً
ٕ ن تضمن مساسا
عندما يكون الدليل العلمي محل ثقة فليس ثمة ما يمنع من استخدامه وا
بحقوق أساسية للإنسان.
المطلب الثاني
مساس الدليل بحقوق الإنسان
إن التنصــت علــى الأحاديــث الخاصــة وتســجيلها، أو التقــاط الصــورة دون علــم الشــخص
اعتــداء . وكــذلك الأمــر بالنســبة لتحليــل ً المعنــي، يمثــل دون أدنــى شــك، علــى الحيــاة الخاصــة
الجينات (.A .N .D (الذي قد يمس حرمة الجسد. لكن ذلك كله لم يحـل دون دخـول هـذه الأدلـة
العلمية في مجال الإثبات الجزائي.
غيـر أن ذلـك لا ينفـي حقيقـة أن الانتقـاد الأهـم الـذي يوجـه لاسـتخدام الأدلـة العلميـة يقـوم
، وعلى وجـه التحديـد الحـق بحرمـة الجسـد والحـق بحرمـة (٣٩) على ضرورة احترام حقوق الإنسان
. بل إن الرأي المناهض لاستخدام الأدلة العلمية فـي الإثبـات الجزائـي يسـتند (٤٠) الحياة الخاصة
إلى ضرورة صيانة حقـوق الإنسـان ومراعاتهـا وعـدم جـواز الاعتـداء عليهـا لـرفض اسـتخدام هـذا
النـوع مـن الأدلـة. غيـر أن هـذا الاتجـاه يتجـاوز عـن أهميـة الـدور الـذي يؤديـه القضـاء الجزائـي
للمجتمع.
(39) PRADEL J. , op. cit. , p. 371,no. 430.
ً تمس به الأدلة العلمية، هو الحق في الدفاع، وبوجه خاص حق
ً ثالثا
(٤٠) يرى البعض أن هناك حقا
ً ضمن الموضوع الذي يتعلق بإرادة المشتبه به في الخضوع للإجراء المتهم بالصمت. لكن، بما أن جوهر هذا الحق يتمثل في عدم إرغام الشخص على المساهمة بإدانة
.ً نفسه، فإن دراسته تدخل حتما
المراد منه الحصول على الدليل، وستتناول الدراسة هذا الموضوع لاحقا
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٣٥
ويضـطلع القضـاء الجزائـي بحمايـة المصـالح العليـا للمجتمـع، ولكـي يـتمكن مـن تأديـة هـذه
الوظيفـة فـلا بـد لـه أن يتسـلح بـأدوات فعالـة. وكلمـا ازداد تعـرض المصـالح الاجتماعيـة للخطـر
ازدادت الحاجــة إلــى وســائل تــؤمن لهــا الحمايــة. وعنــدما يــؤدي اللجــوء إلــى هــذه الوســائل إلــى
. (٤١) إهدار لبعض حقوق الإنسان فإن ذلك سيكون ضمن اختيار أقل الضررين
فيصـبح الحـل الأمثـل –إذن- بـدل المنـاداة بـرفض اسـتعمال وسـائل ذات فاعليـة فـي إثبـات
الجريمــة، وبالنتيجــة حمايــة المجتمــع، هــو القــول بتنظــيم اســتعمالها، وبإحاطــة هــذا الاســتعمال
بضـمانات غايتهـا حمايــة حقـوق الإنسـان. وهــذه الفكـرة هــي التـي سـنحاول دراســتها مـن خــلال
ً (الفــرع الأول)، ثــم التعــرض لمســاس الــدليل
تنــاول مســاس الــدليل بحرمــة الحيــاة الخاصــة أولا
بحرمة الجسد (الفرع الثاني).
الفرع الأول
(٤٢) مساس الدليل بحرمة الحياة الخاصة
يندرج الحق في الخصوصية ضمن حقوق الإنسان، ويحظى هذا الحق بحماية قانونية واسعة.
فعلى مستوى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان هناك نصوص عديدة تضمن حماية هذا الحق في
. (٤٣) مواجهة أي تدخل من السلطات العامة في الحياة الخاصة بصورة تعسفية أو غير قانونية
(41) PRADEL J. , op. cit. , p. 371,no. 430
(٤٢) من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، وضع تعريف جامع مانع للحياة الخاصة؛ وذلك أن
ً متغيرا فكذلك ً بحسب الشخص، وكما أنه يتطور عبر الزمان
يختلف بحسب المكان. مفهوم الحياة الخاصة مفهوما
(الأمريكي- الفرنسي- المصري) والشريعة الإسلامية، دار النهضة العربية، القاهرة، د. ط. ، محمود عبد الرحمن محمد, نطاق الحق في الحياة الخاصة، دراسة مقارنة في القانون الوضعي
ص. ٩٤ وما يليها.
وينبئ لفظ الحياة الخاصة عن معان متعددة الأمر الذي جعل للحق في الحياة الخاصة مسميات
الخصوصية؛ حيث نعتقدهما الأقرب إلى المعنى المراد إعطاؤه لهذا الحق. متعددة، وسنستخدم من بين هذه المسميات في هذه الدراسة، الحق في الحياة الخاصة والحق في
(٤٣) انظر على سبيل المثال: المادة (١٧) من الاتفاقية الدولية لحماية الحقوق المدنية والسياسية؛
المادة (١١) من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان؛ المادة (٨) من الاتفاقية الأوربية لحقوق
لحقوق الإنسان. الإنسان؛ المادة (١٢) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة (٢١) من الميثاق العربي
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٣٦
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
، بالمفهوم الواسع، “العيش بمنأى عن تلصص (٤٤) ويعني الحق في حرمة الحياة الخاصة
. ويحظى هذا المفهوم للحياة الخاصة بأهمية كبيرة في مواجهة وسائل التحقيق (٤٥) الغير”
؛ حيث يساهم التطور العلمي والتقني في ظهور (٤٦) الحديثة التي تملكها السلطات العامة
أشكال مختلفة من الاعتداء على الحياة الخاصة. فهناك أجهزة ومعدات عديدة أصبحت
تستعمل في انتهاك الخصوصية، وفي اقتحام حصونها. فلم يعد بإمكان العوائق الطبيعية، من
ً دون الاعتداء على الحياة الخاصة
؛ لذا تظهر، (٤٧) مسافة أو سواتر أو نحوهما، أن تقف حائلا
بصورة أكبر من أي وقت مضى، أهمية الضمانات التي يتعين أن تحاط بها الأماكن التي
تمارس فيها الحياة الخاصة، فلكل إنسان حق في حرمة المسكن يتعين احترامه، وكذلك الحق
في المحافظة على سرية الأحاديث الخاصة، سواء في مواجهة التنصت على المكالمات
. (٤٨) الهاتفية أو أي تنصت آخر تقوم به السلطة العامة، وأيضا الحق في سرية المراسلات
، يشمل عددا المكونات، (٤٩) ويتضح مما تقدم أن الحق في الحياة الخاصة حق مركب
كأسرار الحياة الخاصة، وسرية المراسلات، وحرمة المسكن.
ً يصلح تطبيقه في مجال القانون، حيث تعد الخصوصية
ً يصعب وضع حدود ومعالم واضحة له. (٤٤) يصعب تعريف الخصوصية تعريفا
ً واسعا
نطاقا
حسام الدين الأهواني، الحق في احترام الحياة الخاصة، الحق في الخصوصية، دراسة مقارنة،
دار النهضة العربية، د. ط. ، ص. ،٤٧ فقرة .٢٨
(45) Vivre a l abri des regards des etrangers.
(46) SURDE F. , Droit international et europeen des droits de l homme, P. U. F. , 4
eme ed. , 1999, p. 248, no. 150 bis.
(٤٧) محمود عبد الرحمن محمد, مرجع سابق، ص. .٧
(٤٨) للمزيد من التفصيل حول موقف المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان من حماية الحق في الحياة
.SURDE F. , op. cit. , loc. cit:أنظر ،الخاصة
(49) PRADEL J. & DANTI-JUAN M. , Droit penal special, CUJAS, 3eme ed. , 2004, p.
176, no. 171.
الحقوق المحمية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، ،٢٠٠٧ ص. .٢٨٩ محمد يوسف علوان، ومحمد خليل الموسى، القانون الدولي لحقوق الإنسان، الجزء الثاني،
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٣٧
ً الحماية الجزائية على الحق
وأما بالنسبة لمشرع قانون العقوبات الأردني فقد أضفى حديثا
من هذا القانون ” كل (٥٠) في الحياة الخاصة كحق مستقل؛ حيث تعاقب المادة (٣٤٨) مكررة
من خرق الحياة الخاصة للآخرين”. وتضاف هذه الحماية لتلك التقليدية التي تتعلق ببعض
عناصر الحق في الخصوصية، وذلك من خلال معاقبة دخول المساكن أو الأماكن الخاصة
ً
ً عاما
، أو كان من آحاد (٥١) في غير الأحوال التي يجيزها القانون إذا كان مرتكبه موظفا
. (٥٣) ، والاطلاع على الرسائل أوالبرقيات أو إفشاء المخابرات الهاتفية (٥٢) الناس
وقد توسع المشرع الأردني في حماية الحق في حرمة الحياة الخاصة، و يظهر ذلك من
خلال تجريم المادة (٣٤٨) مكررة من قانون العقوبات الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة
الذي يقع ” بأية وسيلة كانت”. فيتسع هذا النص ليشمل الاعتداء على هذا الحق باستعمال
وسيلة من وسائل التقنيات الحديثة. فمنذ عام ٢٠١٠ لم تعد تقتصر الحماية القانونية على
معاقبة التقاط وتسجيل و نشر الأحاديث الخاصة عندما تكون وسيلة انتقالها المخابرات
ً التقاط صور الأشخاص ونشرها عند وجودهم في أماكن خاصة، الهاتفية،
و أصبح مجرما
. (٥٤) دون علمهم أو رضاهم
وتغدو الحاجة إلى حماية الحق في الخصوصية أكثر أهمية عندما تكون أجهزة السلطة
ٕ العامة هي التي تقوم بانتهاك حرمة الحياة الخاصة، ن وقع ذلك بدافع كشف الجرائم
وا
،ً وضمن أي الحدود، قيام أجهزة التحقيق أو التحري
ومرتكبيها وجمع أدلتها. فهل يعد مشروعا
(٥١) المادة (١٨١) ق. ع. (٥٠) أضيفت المادة (٣٤٨) مكررة إلى قانون العقوبات الأردني بالقانون رقم (١٢) لسنة .٢٠١٠
(٥٣) المادتان (٣٠٧) و(٣٥٦) ق. ع. (٥٢) المادة (٣٤٧) ق. ع.
المعاقب عليها في المواد من ٢٢٦-١ إلى ٢٢٧-٧ من قانون العقوبات. (٥٤) تدخل في القانون الفرنسي، جل هذه الأفعال في إطار جنحة الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة
فبالإمكان تعريف جنحة الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة، كما أخذ بها المشرع الفرنسي، على
أنها : ” استخدام غير مشروع، لأي وسيلة كانت، تسمح بالتقاط ونقل المحادثات والصور الدائرة
في أماكن خاصة، أو ذات الطابع الخاص أو السري “.
PRADEL J. & DANTI-JUAN M. , op. cit. , p. 219, no. 243.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٣٨
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
وتسجيلها ونقلها، وكذلك التقاط الصور لأشخاص (٥٥) بالتقاط المحادثات ذات الطبيعة الخاصة
في أماكن خاصة دون موافقة من هؤلاء؟.
تجيز المادة (٨٨) من قانون أصول المحاكمات الجزائية الواردة تحت عنوان التفتيش
وضبط المواد المتعلقة بالجريمة، للمدعي العام أن يضبط لدى مكاتب البريد جميع الخطابات
والرسائل، ولدى مكاتب البرق جميع الرسائل البرقية، وأن يراقب المحادثات الهاتفية، ” متى
كان لذلك فائدة في إظهار الحقيقة”. بيد أن الإجازة الواردة في هذا النص تستدعي تساؤلين:
يتعلق أولهما بإغفال النص بيان الحدود التي تقف عندها الإجازة التي يتضمنها، ويتصل
ثانيهما بغياب النص على الضمانات التي يتعين إحاطة عمل السلطة العامة بها عندما ينتهك
. (٥٦) حرمة الحياة الخاصة
صحيح القول بأنه ليس بمقدور قانون إجرائي أن ينظم بالتفصيل الأحكام المتعلقة بإجراءات
ً التحقيق كافة، إلا عندما
لكن عندما يقوم الإجراء على المساس بالحرية الشخصية فإنه لا يعد مشروعا
؛ ولهذا السبب اعتنى المشرع بتنظيم التفتيش والضبط، وفصل أحكام التوقيف (٥٧) ينظمه القانون
والقبض…إلخ، بينما يغيب مثل هذا التنظيم بالنسبة للإجراءات الماسة بحرمة الحياة الخاصة.
(٥٥) من المفيد التأكيد على أن المسألة تتعلق بمحادثات ذات طبيعة خاصة، الأمر الذي يعني أن
ٕ العبرة بطبيعة الحديث لا بمكان وقوعه. حيث يظل الحديث ذا طبي ن دار في مكان
عة خاصة وا
عام عندما لا تتجه إرادة المتحادثين إلى السماح للغير بالاطلاع عليه.
(٥٦) انظر لمزيد من التوضيح، موقف القانون المصري. حيث تجيز المادة (٢٠٦) من قانون
الإجراءات الجنائية للنيابة العامة ضبط الخطابات والرسائل والبرقيات، ومراقبة المحادثات السلكية
واللاسلكية، وا جري في مكان خاص، وذلك كله شريطة: ٕ جازة تسجيل المحادثات التي ت
ثلاثة أشهر. – أن تكون الجريمة التي يجري التحقيق بشأنها جناية أو جنحة يعاقب عليها بالحبس لمدة تزيد عن
– الحصول على أمر من القاضي الجزئي بعد اطلاعه على الأوراق، لاتخاذ أي من هذه
،ً مع الإجازة للقاضي الجزئي بتمديد هذه المدة إلى مدد أخرى الإجراءات.
مماثلة. – أن تتحدد مدة الأمر بثلاثين يوما
( CONTE Ph. & DU CHAMBON P. , Procedure penale, Armand Colin, 4 eme ed. , 57)
2002, p. 42,no. 67 .
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٣٩
ً)، ثم على تناول أهم
لذا فإننا سنعمل على بيان حدود المساس بحرمة الحياة الخاصة (أولا
ً)، وكل ذلك ضمن افتراض أن يكون
الضمانات التي يتعين أن يحاط بها هذا المساس (ثانيا
ً للوقوف على أدلة الجريمة.
المساس بحرمة الحياة الخاصة ضروريا
ً : حدود المساس بحرمة الحياة الخاصة.
أولا
بالإمكان حصر أهم الإجراءات الماسة بحرمة الحياة الخاصة، عندما تكون الغاية منها
اكتشاف الجرائم وتحديد مرتكبيها والوقوف على أدلتها، بالإجراءات الثلاث التالية:
– التقاط الصور،
– والتقاط الأحاديث الخاصة،
– والتنصت الهاتفي والاطلاع على المراسلات.
ً الإجراء الثالث
وا ، فإنه قد أغفل ٕذا كان قانون أصول المحاكمات الجزائية قد أجاز صراحة
النص على إجازة الإجراءين الآخرين.
.ً أ) المساس بحرمة الحياة الخاصة الذي لم يجزه ال
قانون صراحة
-١\التقاط الصور:
ً في ضبط مخالفات السير
إثبات الجرائم من خلال التصوير وسيلة مستعملة خصوصا
ً من حيث (٥٨) على الطرق في معظم الدول
، ولم يعد يثير قبول الإثبات بهذه الوسيلة نقاشا
. (٥٩) المبدأ
(58) GREEN-WALD R. ,Scientific evidence in traffic cases, Journal of criminal law,
criminology and police science, 1968, p. 57
(٥٩) حاول البعض الدفع بأن أخذ صورة للمركبة المخالفة يعد اعتداء على حرمة الحياة الخاصة
،ً بيد أن مثل هذا
ً خاصا
ً استنادا ، ولم يؤثر في ً إلى أن المركبة تشكل مكانا
بمثابة المحضر المنظم بحق المخالف. النتيجة على مشروعية إثبات مخالفات السير بواسطة تصوير السيارة المخالفة، واعتبار الصورة الدفع لم يلق قبولا
Cass. Crim. , 8 dec. 1983,B. C. 333.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٤٠
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
كذلك لا يمتنع الإثبات من خلال استعمال الصور التي تلتقطها الأجهزة التي يقوم جهة
أو شخص بوضعها من أجل رصد ما قد يقع في مكان معين. فالصور التي تلتقطها الأجهزة
التي تضعها جهات كالبنوك، أو بعض المحال التجارية كمحلات تجارة العملة أو المجوهرات
أو البيع من خلال الخدمة الذاتية…. إلخ، يمكن استعمالها في كشف شخصية مرتكب
وتعد الصورة قرينة تصلح لإثبات وقوع الجريمة وا ، ٕ الاعتداء في حال وقوعه، سنادها لمرتكبها
. (٦٠) إذا روعيت حقوق الدفاع
وبالإمكان الاستناد إلى سببين في مصلحة استخدام الصورة في الإثبات:
السبب الأول هو عدم خشية وصف وسيلة الحصول على الدليل بعدم المشروعية، وذلك
لأن أجهزة التصوير لا تضطلع إلا بدور سلبي لا يرقى إلى درجة التحريض على ارتكاب
الجريمة؛ أي أن هذا الاعتراض الذي يثور في مواجهة الوسائل التي تستعمل في التقاط
، لا يقوم في مواجهة استخدام التصوير. (٦١) الحديث، إذا ما أسيئ استعمالها
والسبب الثاني، الأهم، هو أن استعمال أجهزة التصوير في الشكل الذي سبق بيانه، يجري
. (٦٢) في مكان عام، الأمر الذي يرفع عنه صفة الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة
والحق أن ما يمكن أن ترصده العين في مكان عام يمكن للسلطة المكلفة حفظ النظام
رصده من خلال أجهزة التصوير، وما تحفظه الذاكرة يمكن للأجهزة القيام بحفظه، بل إن
. (٦٣) الحفظ بواسطة الأجهزة يكون أكثر دقة من الذاكرة التي قد يدخل فيها الخيال الشخصي
من الإطلاع على الدليل والسماح له بمناقشته على قدم المساواة مع الادعاء. (٦٠) المقصود بحق الدفاع في هذا النطاق إخضاع الدليل لمبدأ المواجهة، أي: تمكين المشتكى عليه
ً ص (١٦).
(٦١) انظر لاحقا
(62) PRADEL J. & VARINARD A. , Les grands arret du droit criminel, T. 2, SIREY, 1988, p. 98.
،١٩٨٩ ص. .٥٩٥ (٦٣) مصطفى العوجي، حقوق الإنسان في الدعوى الجزائية، مؤسسة نوفل، بيروت، الطبعة الأولى،
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٤١
ولكن الأمر يصبح على خلاف ذلك إذا تعلق بالدليل المستمد من الصور التي يجري
التقاطها في الأماكن الخاصة. فلا يكفي الاستناد إلى حرية الإثبات للقول بصلاحية هذا الدليل
لكي يبنى عليه حكم بالإدانة. فما لا شك فيه أن تصوير الأشخاص في الأماكن الخاصة يمثل
ً على حرمة الحياة الخاصة
، ويعد الدليل المستمد من خلال استعمال هذا الإجراء (٦٤) اعتداء
غير مشروع لاستناده إلى وسيلة غير مشروعة، فما دام أن القانون لم يجز صراحة هذا
الإجراء فإنه يوسم بعدم المشروعية، وذلك لأن المشروعية تعني في نطاق الإجراءات الماسة
ً بالحرية الشخصية أ فهو ممنوع
. (٦٥) ن كل إجراء لم يجزه القانون صراحة
-٢التنصت على الأحاديث الخاصة.
يتعين أن نشير إبتداء ، على خلاف ما هو ً إلى أن وصف الأحاديث بالخاصة لا يتوقف
ٕ ، نما يكشف عن خصوصية (٦٦) بالنسبة للصورة، على طبيعة المكان الذي يجري فيه الحديث
وا
(٦٤) ولا يغير في ذلك القول بأن قانون العقوبات الأردني، بخلاف العديد من القوانين، كقانوني
العقوبات المصري (المادة ٣٠٩ مكرر) والفرنسي (المادة ١-٢٢٦)، لم يعتبر جريمة يعاقب عليها
القانون التقاط صورة شخص في مكان خاص بغير رضاه.
(65) CONTE Ph. & DU CHAMBON P. , op. cit. , p. 42, no. 67.
(٦٦) يذهب بعض أحكام القضاء، ويؤيده في ذلك بعض الفقه، إلى ربط صفة الخصوصية في
ً الأحاديث بمكان إجراء الحديث، فل يتعين أن يقع في مكان خاص بالمعنى
الضيق (المكان الذي لا يسمح للجمهور بدخوله دون إذن ذوي الشأن)، وبالمقابل لا تتحقق صفة كي يعد الحديث خاصا
الخصوصية للحديث الذي يقع في مكان عام (المكان المتاح دخوله للجمهور سواء أكان ذلك
بشرط أم بدون شرط)، فالمعول عليه إذن هو طبيعة المكان الذي يجري فيه الحديث وليس حالة
ناحية خصوصية أي منهما، فهذه ترتبط بصفة المكان الذي وقع فيه الفعل. الخصوصية التي يكون عليها الأفراد. أي: لا يرى هذا الاتجاه التفرقة بين الحديث والصورة من
ويستند هذا الاتجاه إلى نص المادة (المادة ٣٠٩ مكرر) من قانون العقوبات المصري، التي
تتطابق مع المادة (٣٦٨) من قانون العقوبات الفرنسي؛ حيث تجرم كل من هاتين المادتين
ً التنصت على “محادثات تجري في مكان خاص”. فيصبح تقرير حالة ال على
طبيعة الحالة ٕوان وقع الحديث في مكان عام اقحام حالة على نص التجريم لم يقتضيها، أي خصوصية بناء
ً . للقاعدة التي تمنع قبول التفسير الموسع للنصوص الجزائية
خلافا التجريم نص تفسير في التوسع CHAVANNE A. , La protection de la vie privee dans la loi du 17 juillet 1970, R. S. C. , 1971, p.
631;
BADINTER R. , La protection de la vie privee contre l ecoute electronique clandestine, J. C. P. – 1-
2435.
محمود محمود مصطفى، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، دار النهضة العربية، ط،٧
ص. .٧٧١ محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، دار النهضة العربية، ط,٢ ،١٩٧٨ ,١٩٧٥ ص. ٤٣٤ ؛
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٤٢
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
الحديث حرص من يصدر عنه على سرية المحادثة التي تدور بينه وبين الغير. ومفاد ذلك ألا
يمتنع وصف الحديث بالسري وا ، والعكس صحيح فقد يفقد الحديث هذه ٕ ن جرى في مكان عام
ٕ ن وقع في مكان خاص
. “إذن العبرة بطبيعة الحديث لا بطبيعة المكان، فالمحادثة (٦٧) الصفة وا
ٕ ن وقعت في مكان عام”
. فطبيعة المكان الخاص بالنسبة (٦٨) يمكن أن تكون خاصة وا
ً لها.
للمحادثات ليست سوى قرينة بسيطة على السرية، وليست معيارا
يعد استخدام أجهزة التنصت في التقاط الحديث وتسجيله ونقله وسيلة مهمة في مكافحة
ً (٦٩) بعض الجرائم الخطيرة، كالجريمة المنظمة
. لكن، بينما يجيز المشرع الأردني صراحة
مراقبة الاتصالات الهاتفية، فإنه يغفل النص على إجازة الاطلاع المباشر على المحادثات
، وهو بذلك يترك تقرير الإجازة أو (٧٠) الخاصة عندما لا يكون الاتصال الهاتفي وسيلة انتقالها
عدمه للقواعد العامة.
غير أن الرأي القائل باشتراط وقوع الحديث في مكان خاص لكي يدخل ضمن الحماية الجنائية
ً في القانون المدني. للحق في الخصوصية لا يجب الأخذ به بالضرورة في مجال القانون المدني، وذلك لأن الاعتبارات
التي يقوم عليها هذا الرأي لا تجد لها مكانا
ً تجرم الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة. كما نرى عدم ضرورة الأخذ بالتفسير الضيق للحديث الخاص في القانون الجزائي الأردني حيث لم مرجع سابق، ص. .١٩٨ حسام الدين كامل الأهواني، مرجع سابق، ص. ،١٢٦ فقرة ٨١؛ محمود عبد الرحمن محمد،
يتضمن القانون نصوصا
(٦٧) تستند التفرقة بين خصوصية الصورة وخصوصية الأحاديث القائمة على معيار طبيعة المكان إلى
ً من
أسباب منطقية. فيتضمن وجود الشخص في مكان عام موافقته الضمنية على أن يكون مرئيا
لذا فإن التقاط الصورة في المكان العام لا يحمل اعتداء . = ً الجمهور؛ على الحق في الخصوصية
حسام الدين الأهواني، مرجع سابق. المعيار الذي يتحدد بناء عليه خصوصية الحديث. =بينما وقوع حديث خاص في مكان عام أمر عادة ما يحدث، لذا لا يمكن اعتبار طبيعة المكان
BECOURT D. , Reflexions sur le projet de loi relatif a la protection de la vie privee, G. P.Doc. ,
201.
(68) PRADEL J. , Les dispositions de la loi no. 70-643 du 17 juillet 1970 sur la protection de la vie
privee, Dalloz, 1971-1-111.
(69) PRADEL J. , op. cit. , p. 373, no. 432.
(٧٠) انظر المادة (٨٨) ق. أ. م. ج.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٤٣
والحق أن التنصت على المحادثات الخاصة باستخدام أجهزة التنصت يتقابل في الجوهر
مع التنصت على الاتصالات الهاتفية، فكلاهما انتهاك للحق في الخصوصية، وينحصر
الاختلاف بينهما من ناحية الوسيلة المستخدمة. الأمر الذي يعني، بحسب ما نعتقد، إمكانية
ً . القول بإجازة الأولى على إجازة القانون الصريحة للأخرى
قياسا
ً من شأنه
بيد أن تدخل المشرع لإجازة استعمال أجهزة التنصت على المحادثات صراحة
قطع دابر أي خلاف قد يثور بشأن إجازة هذا الاستعمال. ويبرر هذا القول أنه يتعلق
بمشروعية إجراء يمس الحرية الشخصية، وتدخل القانون لإجازة مثل هذه الإجراءات وتنظيمها
ضروري، كما أسلفنا القول، كي تعد مشروعة.
ب) المساس بحرمة الحياة الخاصة الذي يجيزه القانون ً صراحة:
يجيز القانون للمدعي العام الاطلاع على الرسائل والبرقيات التي يقرر ضبطها لدى
ً مراقبة المحادثات الهاتفية
. (٧١) مكاتب البريد والبرق، ويجيز له أيضا
ٕ واعتقادنا أن سبب حصر المشرع إجازة هذه الأفعال فقط، غفال الأخرى التي تمثل
وا
، (٧٢) اعتداءات على الحق في الخصوصية، يعود إلى أن قانون العقوبات كان، قبل ٢٠١٠
يجرم فقط هذه الصور من الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة تحت عنوان جرائم إفشاء
الأسرار، فيعاقب قانون العقوبات كل شخص ملحق بمصلحة البرق والبريد يطلع على رسالة
ً بمصلحة
مظروفة أو يفضي بمضمونها إلى غير المرسل إليه، ويعاقب كذلك من كان ملحقا
، الأمر الذي يؤدي، في حال عدم وجود الإجازة (٧٣) الهاتف إذا أفشى مخابرة هاتفية
المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية، إلى قيام مسئولية المدعي العام،، عن
(٧١) المادتان (٨٨) و (٨٩) ق. أ. م. ج.
ً (٧٢) فبصدور القانون رقم (١٢) لسنة ٢٠١٠ لقانون العقوبات، هي المادة (
الذي أضاف مادة ٣٤٨ ً جديدة
ً)، أصبح جريمة يعاقب عليها بالحبس لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر كل اعتداء على حياة الغير
مكررا
الخاصة “باستراق السمع أو البصر بأية وسيلة كانت”.
(٧٣) المادة (٣٥٦) ق. ع.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٤٤
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
التحريض على جرم إفشاء الأسرار إن قام بدفع من هو ملحق بمصلحة البريد والبرق والهاتف
على إفشاء السر المتعلق بمضمون رسالة أو برقية أو مخابرة هاتفية. ولا يكفي الاستناد إلى
أسباب التبرير العامة المنصوص عليها في المواد من (٥٩) إلى (٦٢) من قانون العقوبات
لتبرير أفعال المدعيين العامين؛ وذلك لعدم توافر شروط أي منها في هذه الحالة.
لكن بعد تعديل قانون العقوبات أصبح، بحسب نص المادة (٣٤٨ مكررة)، كل اعتداء على الحياة
الخاصة، من خلال “استراق السمع أو البصر” جريمة، مهما كانت الوسيلة المستخدمة، بما في ذلك ”
التسجيل الصوتي أو التقاط الصور أو استخدام المنظار”، الأمر الذي يستدعي، بحسب ما نعتقد،
ضرورة تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية لكي يجيز القانون أفعال المدعي العام التي تمثل
ً على الحق في الخصوصية
اعتداء ، عندما تقع هذه الأفعال لدواعي التحقيق، فلا بد أن يقابل ً مجرما
التعديل المطلوب ذلك الذي طال قانون العقوبات من ناحية توسيع حماية الحق في الخصوصية.
:ً الضمانات التي يتعين أن يحاط بها المساس بحرمة الحياة الخاصة:
ثانيا
ويحيط قانون أصول المحاكمات الجزائية سلطة المدعي العام في الاطلاع على الرسائل
والمحادثات والهاتفية بمجموعة من الضمانات التي يراد لها تأمين الاحترام الذي يقتضيه الحق
في الخصوصية. لكن التساؤل الذي يثور بشأن هذه الضمانات يظل الآتي: ما مدى كفاية
الضمانات القانونية للقول بأن إجازة المساس بحرمة الحياة الخاصة تقع في حدود ضرورة
البحث عن الحقيقة؟. ولإجابة هذا السؤال يتعين بداية مناقشة الضمانات التي نص عليها
القانون، ثم بيان تلك التي أغفل النص عليها.
(أ) الضمانات التي نص عليها القانون.
o الضمانة الأولى:
تحصر الفقرة (٣) من المادة (٨٩) من قانون أصول المحاكات الجزائية في المدعي العام
دون غيره صلاحية الاطلاع على الرسائل والبرقيات المضبوطة. ويتضح من المقارنة بين ما
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٤٥
ورد في هذه الفقرة والفقرة الأولى من النص ذاته، بأنه لا يجوز أن ينيب المدعي العام أحد
. فبينما يجيز (٧٤) موظفي الضابطة العدلية للقيام بالاطلاع على الرسائل والبرقيات المضبوطة
المشرع لموظف الضابطة العدلية المستناب الاطلاع على الأوراق قبل ضبطها (الفقرة الأولى
من النص)، فقد خلا النص الذي ينظم سلطة الاطلاع على الأوراق المضبوطة من مثل هذه
الإجازة (الفقرة الثالثة من النص).
ً فعل المشرع عندما حصر المساس بحرمة الحياة الخاصة، من خلال الاطلاع على
وحسنا
الرسائل والبرقيات، في المدعي العام، فهذا يمثل إحدى الضمانات المهمة التي أرادها المشرع حماية
للحياة الخاصة. لكنه أغفل النص على الضمانة ذاتها بالنسبة للمحادثات الهاتفية، فهل يعني ذلك
جواز إنابة موظفي الضابطة العدلية في الاطلاع على محتوى هذه المحادثات؟
نعتقد بأنه يتعين الإجابة عن هذا التساؤل بالنفي؛ حيث لا يقوم على منطق مقبول إحاطة
المراسلات الخاصة بضمانة تتأتى من أن السلطة القضائية هي التي يحق لها الاطلاع عليها،
واستبعاد المحادثات الهاتفية من الضمانة ذاتها. فبما أن الاطلاع على الاتصالات الهاتفية هو
تدخل من السلطة العامة في الحياة الخاصة للأفراد، فيتعين عدم السماح بمباشرة ذلك إلا من
. (٧٥) خلال السلطة القضائية
o الضمانة الثانية :
حدد المشرع الغرض من الاطلاع على المراسلات الخاصة أو الأحاديث الهاتفية
بالوصول إلى الحقيقة. فتبين المادة (٨٨) من قانون أصول المحاكمات الجزائية المراسلات
والمحادثات الهاتفية التي يمكن الاطلاع عليها بتلك التي تكون لها ” فائدة في إظهار الحقيقة”.
(٧٤) ولايغير في ذلك ما ورد في الفقرة (١) من المادة (٩٢) ق. أ. م. ج. من أن “. . . وله (المدعي
المشتكى عليه “. العام) أن ينيب أحد موظفي الضابطة العدلية لأية معاملة من معاملات التحقيق عدا استجواب
(75) PRADEL J. , Un control tres strict des ecoutes telephoniques par la Cour de
Strasbourg, D. 2005, no. 26, juris. , p. 1755.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٤٦
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
ويتطلب تطبيق هذا النص، بحسب اعتقادنا، قيام المدعي العام الذي يقرر ضبط
المراسلات أو مراقبة المحادثات تضمين قراره الأسباب الموضوعية التي يستند إليها، وذلك كي
يتسنى مراقبة قانونية هذا القرار، فالتفسير السليم لصياغة المادة (٨٨) لا يسمح بأن يترك
ٕ تقدير “الفائدة في إظهار الحقيقة” لمطلق قناعات المدعي العام الشخصية، نما يتعين أن
وا
. (٧٦) يستند ذلك التقدير إلى أسباب موضوعية
(ب) الضمانات التي أغفل القانون النص عليها.
أغفل المشرع بيان الحدود التي يتعين أن يقع ضمنها المساس بحرمة الحياة الخاصة: من
ناحية الأشخاص، أو الجرائم، أو مدة الإجراء.
o من ناحية الأشخاص :
يبين القانون ما يجوز ضبطه والاطلاع عليه ومراقبته، لكن دون تحديد الأشخاص الذين
يجوز ضبط مراسلاتهم والاطلاع عليها أو مراقبة محادثاتهم الهاتفية، فبإمكان المدعي العام
،ً أم
،ً أم مشتكيا
ً فيه، أم شاهدا
إذن أن يقرر ذلك في مواجهة أي شخص، سواء أكان مشتبها
ً بالحقوق المدنية… إلخ.
مدعيا
والحق أن التوسع في إجازة المساس بحرمة الحياة الخاصة يخرج الإجازة عن حدود
الضرورة. وكان الأجدر بالمشرع حصر الأشخاص الذين يمكن ضبط مراسلاتهم والاطلاع
(٧٦) لزيادة في التوضيح يمكن المقارنة بين صياغة نص المادة (٨٨) ق. أ. م. ج. و صياغة الفقرة
الثالثة من المادة (٨٩) من القانون ذاته، حيث تجيز الأخيرة للمدعي العام الاحتفاظ بالرسائل
والبرقيات التي ” يراها لازمة لإظهار الحقيقة”، بينما جاءت صياغة الأولى على النحو الآتي:
ً على قناعة المدعي العام. الاحتفاظ بالرسائل والبرقيات المضبوطة التي تكون، بحسب تقديره، لازمة لإظهار الحقيقة، أي “الفائدة في إظهار الحقيقة ” يقوم على أسباب موضوعية، بينما يكون للمدعي العام أن يقرر “متى كان لذلك فائدة في إظهار الحقيقة “، ويدل الاختلاف بين هاتين الصياغتين على أن تقدير
يكون التقدير في الحالة الأخيرة مبنيا
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٤٧
عليها أو مراقبة محادثاتهم الهاتفية بالمشتبه فيهم بارتكاب جرائم، على غرار إجازة دخول
. (٧٧) المنازل وتفتيشها
ً على سلطة المدعي العام في تحديد
ولابد من الإشارة إلى أن مراعاة حقوق الدفاع تمثل قيدا
الأشخاص. فليس للمدعي العام الاطلاع على المراسلات التي تكون بين المشتبه فيه ومحاميه لما
ينطوي عليه ذلك من إهدار لحق الدفاع. وهذا السبب الذي جعل المشرع يقرر بأنه لا يجوز
. (٧٨) الإثبات “بالرسائل المتبادلة بين المتهم أو الظنين أو المشتكى عليه ومحاميه”
ويدخل ضمن الإطار ذاته حظر الاطلاع على المحادثات التي تجري بين المشتبه فيه
ً على ذلك، وضع هاتف مكتب المحامي تحت المراقبة، إلا في
ومحاميه. فيمتنع، تطبيقا
ً فيه بارتكاب جريمة أو المساهمة فيها
؛ حيث (٧٩) الأحوال التي يكون المحامي فيها مشتبها
يقتضي حق الدفاع إحاطة العلاقة بين المشتكى عليه و المحامي بالسرية؛ لذا فإن المشرع
يقرر وجوب تمكين المحامي من الاتصال بالمشتكى عليه الموقوف في أي وقت و” بمعزل
. (٨٠) عن أي رقيب”
ومن أجل المحافظة على سلامة إجراءات ضبط المراسلات والاطلاع عليها، وللحيلولة
دون الطعون التي قد تطال إجراءات التحقيق، فقد اشترط المشرع أن يقع فض الأختام وفرز
، ويجوز أن يقع ذلك في (٨١) الأوراق التي تقرر ضبطها، في حضور المشتكى عليه أو وكيله
. (٨٢) غيابهما إذا دعيا ولم يحضرا، أو عند وجود حالة ضرورة تستدعي ذلك
(٧٧) المادة (٨١) وما يليها ق. أ. م. ج.
(٧٨) المادة (١٥٢) ق. أ. م. ج.
( PRADEL J. & VARINARD A. , p. 187. 79)
(٨٠) المادة (٦٦) ق. أ. م. ج. المعدلة بالقانون رقم (١٦) لسنة .٢٠٠١
ٕ (٨١) نما غايتها بالمحامي. كان هذا النص قبل التعديل يمكن المدعي العام ” إذا رأى ذلك “، منع اتصال المشتكى عليه
يتعين التأكيد على أن هذه الضمانة لا تقع ضمن حماية الحق في الخصوصية، وا
(٨٢) المادة (٨٩) فقرة (٢) ق. أ. م. ج. المحافظة على الدليل من البطلان.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٤٨
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
o من ناحية الجرائم :
لم يحدد المشرع الجرائم التي يمكن عند التحقيق فيها، أن يتم ضبط المراسلات والاطلاع
عليها ومراقبة المحادثات الهاتفية. وفي ظل الكائن من النصوص، يمكن إذن، أن يقع ذلك في
مواجهة أي جريمة مهما كانت درجة جسامتها. ويخرج عن حدود الضرورة، التي يجب أن
يتحدد بحدودها المساس بحرمة الحياة الخاصة، عند وقوع هذا المساس في مواجهة الجرائم
التي لا تمثل خطورة ذات أهمية بالنسبة للمجتمع. وبما أن الضرورة تتحدد بحدودها، فإنه
يتعين عدم القبول بإهدار حق بأهمية الحق في الخصوصية، إلا في الحالات التي تستدعي
جسامة الجريمة ذلك، أو عندما تتطلب طبيعتها إجراءات خاصة لمكافحتها.
ونرى ضرورة تعديل المادة (٨٨) من قانون أصول المحاكمات الجزائية بحيث يتم الربط
ً وأن فكرة الربط بين
بين إجازة المساس بحرمة الحياة الخاصة وحالة الضرورة، خصوصا
طبيعة الجريمة أو جسامتها و التقييد من الحرية الشخصية لم تكن بعيدة عن جوهر بعض
. (٨٣) التعديلات التي طالت هذا القانون
o من ناحية المدة :
لم يحدد المشرع المدة التي يمكن خلالها مراقبة المراسلات، أو على وجه الخصوص،
المحادثات الهاتفية؛ لذا يتعين النص على المدة التي يجوز أن تقع خلالها المراقبة وألا
تتجاوزها. سواء أكان ذلك بالنسبة للمدة الأصلية، أم مدة أو مدد تجديدها إذا استدعت
وا ، إذا تجاوزت حدود معينة، لقرار يصدر عن جهة ٕ إجراءات التحقيق ذلك. خضاع مدد التجديد
(٨٣) من بين هذه التعديلات تلك التي طالت المادة (١١٤) ق. أ. م. ج. المتعلقة بالتوقيف (بالقانون
رقم (١٦) لسنة ٢٠٠١). فمنذ هذا التعديل أصبح تقييد الحرية الشخصية من خلال توقيف
المشتكى عليه، غير جائز إلا إذا كانت الجريمة جناية، أوجنحة يعاقب عليها بالحبس لمدة تزيد
حدد القانون هذه الجرائم وتلك الحالات. عن سنتين، أو كانت طبيعة الجريمة تقتضي ذلك، أو كانت هناك حالة تستدعي التوقيف، وقد
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٤٩
. والغاية من (٨٤) قضائية أخرى غير المدعي العام، على غرار ما هو مطبق بالنسبة للتوقيف
. (٨٥) ذلك، هي ضمان ألا يتجاوز المساس بالحق في الخصوصية حدود الضرورة
ً
وصفوة القول أنه يتعين على المشرع إعادة تنظيم إجراءات التحقيق عندما تمثل مساسا
بحرمة الحياة الخاصة؛ وذلك من أجل إضفاء صفة المشروعية عليها. ولا يتأتى ذلك من
ً إحاطة الإجراء بالضمانات
خلال إباحة هذه الإجراءات فقط، ٕوانما تقتضي المشروعية أيضا
اللازمة لصيانة الحق في الخصوصية من أي تعسف قد يقع، أي: تلك الضمانات التي تسعى
لإبقاء الإجراء ضمن حدود الضرورة التي تبرر استعماله من قبل السلطة المختصة.
وتظهر الحاجة، بشكل أكبر، لمثل هذا التنظيم عندما يقتضي التحقيق مراقبة أو التنصت
أو التقاط أو اعتراض الاتصالات أو الرسائل الإلكترونية. ففي ظل غياب التنظيم القانوني
ً اتباع الإجراءات الخاص في هذه الأحوال فإنه لن يك أمام جهة التحقيق سوى
ون متاحا
. وقد بينا غياب التنظيم (٨٦) الخاصة بالمراقبة والتنصت على المراسلات والمحادثات العادية
القانوني المطلوب لهذه الإجراءات، ونستطيع أن نضيف أن اعتراض الاتصالات الإلكترونية
(٨٤) المادة (١١٤) ق. أ. م. ج.
ً أدان فرنسا
(٨٥) كان قد صدر في ١٩٩٠/٤/٢٤ عن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، حكما
لانتهاكها المادة (٨) من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان. واستندت المحكمة في هذا الحكم على
أن القانون الفرنسي المطبق على مراقبة المحادثات الهاتفية يفتقد التحديد المطلوب فيما يتعلق
بالأشخاص الذين يمكن إخضاع محادثاتهم الهاتفية للمراقبة، و بالجرائم التي يخضع مرتكبوها لهذا
الإجراء، وبمدة الإجراء، و بالشروط الواجب مراعاتها في المحاضر المتعلقة بالإجراء،
وبالاحتياطات الواجب مراعاتها للإبقاء على تسجيل المحادثات الهاتفية كاملة وسليمة، وبتحديد
الظروف التي يجب من خلالها مسح وا القرار بمنع المحاكمة، أو الحكم ٕ تلاف أشرطة التسجيل بعد
لمزيد من التفصيل حول هذا الحكم، انظر: بالبراءة.
RASSAT M-L. , op. cit. , p. 336, no. 212 .
(٨٦) وفي الحقيقة: إن الحق في الخصوصية يكون أكثر عرضة للانتهاك إذا ما كانت الاتصالات
ً الالكترونية، سواء المحادثات أو الرسائل، هي المستخدمة؛ الحاجة لحماية جزائية
لهذا النوع من الاتصالات. لذا تظهر أيضا
القانون، جامعة الإمارات العربية المتحدة، ،٢٠١٠ ص. .٩٥ انظر: معتصم خميس مشعشع، إثبات الجريمة الإلكترونية، ندوة جرائم تقنية المعلومات، كلية
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٥٠
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
. وقد مثلت هذه (٨٧) وتسجيلها بحاجة إلى إجراءات أخرى خاصة بهذا النوع من الاتصال
، (٨٨) الإجراءات المستحدثة موضوع الباب الثاني من الاتفاقية المتعلقة بالجريمة الإلكترونية
الذي تضمن ثمان مواد (من المادة ١٤ إلى المادة ٢١) نظمت هذه الإجراءات.
الفرع الثاني
مساس الدليل بحرمة الجسد
يتفرد كل إنسان بنمط خاص من التركيب الوراثي الذي لا يشاركه فيه أي شخص
، و يتعارف على تسمية هذا النمط “البصمة الوراثية”؛ لذا من الناحية العلمية، تعد (٨٩) آخر
البصمة الوراثية وسيلة لا تخطئ في تحديد الشخصية.
والحق أن تأثير التقدم في الأبحاث العلمية البيولوجية على الأدلة الجنائية ليس بالموضوع
. لكن يكتسب هذا الموضوع أهمية خاصة عندما يتعلق بالكشف عن هوية الجاني (٩٠) الجديد
ٕ ثبات إسناد الجريمة باستخدام البصمة الوراثية
. فتظهر في هذا المجال، أهمية الإشكالية (٩١) وا
الجوهرية التي تتمثل في تحديد الكيفية التي يمكن للاكتشافات العلمية الحديثة ” أن تؤثر
وتطور وتعدل في تنظيم رد الفعل الاجتماعي على الجريمة؛ فضمن أي الحدود يعد ذاك
(٨٧) معتصم خميس مشعشع، مرجع سابق، ص. .١٠٧
(٨٨) الاتفاقية المتعلقة بالجريمة الإلكترونية (اتفاقية بودابست)، ٢٣ نوفمبر ،٢٠٠١ مجلس أوربا، مجموعة
المعاهدات الأوربية، رقم .١٨٥ =
=وتعد هذه الاتفاقية أول الاتفاقيات الدولية التي اختصت بمكافحة الجريمة الإلكترونية، وتمت تحت إشراف
المجلس الأوربي، ووقعتها (٣٠) دولة من ضمنها (٤) دول من خارج أعضاء المجلس، هي: الولايات
المتحدة الأمريكية، وكندا، واليابان، وجنوب إفريقيا. ودخلت الاتفاقية حيز النفاذ في الأول من يناير عام
.٢٠٠٧
(٨٩) تشير الدراسات إلى أن احتمال تواجد نفس التتابع في جزئية A .N .D. عند شخصين مختلفين لا يتعدى
نسبة الواحد في المليار، و لايتجاوز هذا الاحتمال عند الأشقاء نسبة الواحد في العشرة ملايين.
(٩٠) إن استخدام بصمة الأصابع، وتحليل الدم، واستخراج جسم غريب من جسد الجاني أو الضحية
وتحليله….إلخ كلها وسائل تعتمد الطرق العلمية في الإثبات، وتستخدم منذ .زمن. انظر: فيما يتعلق بهذه
الوسائل، وما قد يترتب عن استخدامها من إشكاليات :
PRADEL J. , Procedure penale, op. cit. , p. 379, no. 435 et 436.
(91) MOLINA E. , La liberte de la prevue des infractions en droit francais contemporain, Puam,
2001, no. 166.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٥١
ً في نظام قانوني يقوم على المشروعية”
. (٩٢) التأثير وهذا التطور والتعديل مقبولا
ً؛ حيث يكفي تحليل مادة البصمة
ً مثاليا
وتعد البصمة الوراثية في نظر الكثيرين، دليلا
الوراثية، أي الـ A .N .D. ، التي توجد في بعض قطرات دم أو شعر أو لعاب أو سائل
منوي… إلخ موجود على الضحية أو في مسرح الجريمة لكي يتم التعرف على هوية مرتكب
الجريمة. فالتحليل الواقع على مثل هذه الأشياء، ومقارنة نتائج التحليل مع تحليل خلايا
مأخوذة من المشتبه فيه تستجلي بصورة قاطعة شخصية مرتكب الجريمة، أو براءته؛ ولأنه من
، (٩٣) خلال استخدام البصمة الوراثية يتم استخلاص الدليل “بصورة علمية وقاطعة وحاسمة”
فتظهر إشكاليتان رئيسيتان على صعيد استخدام البصمة الوراثية في الإثبات: تتعلق أولهما
بالاحتياطات الواجب مراعاتها عندما يراد تحليل الحامض النووي، وترتبط ثانيتهما بمدى
مشروعية إجبار مشتبه فيه بارتكاب جريمة على الخضوع لمثل هذا التحليل.
:ً الاحتياطات الواجب مراعاتها.
أولا
ً إلى مبدأ حرية
صحيح أن الدليل المستمد من تحليل الحمض النووي يعد، استنادا
. لكن (٩٤) الإثبات، كغيره من الأدلة الأخرى، فلا يحتل مكانة تجعله يسمو على غيره منها
بسبب النتائج القاطعة التي يفضي إليها، من الناحية العلمية، استخدام البصمة الوراثية، فإن
؛ حيث نسبة الخطأ تكون (٩٥) الدلالات المستمدة من هذه التقنية لا مجال للتشكيك فيها
ً صعوبة التجاوز عن الدور الذي يمكن أن يؤديه الإثبات
منعدمة، الأمر الذي يعني عمليا
(92) ANCEL, Les propblemes poses par l application des techniques scientifique nouvelles
au droit penal et a l procedure penale, Rapport aux Journees franco-polonaises, 1960,
p. 1.
(٩٣) حسام الأحمد، البصمة الوراثية، حجيتها في الإثبات الجنائي والنسب، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت،
ط. ،١ ،٢٠١٠ ص. .١٤٩
(94) LESCLOU V. & MARSAT C. , Du proces penal et du juge a propos des empreintes
genetiques, Dr. pen. 1998, no. 6,p. 5.
(٩٥) حسام الأحمد، مرجع سابق، ص. .١٤٦
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٥٢
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
. لذا يجب أن يحاط الإثبات بواسطة (٩٦) باستعمال هذه الوسيلة في بناء قناعة القاضي الجزائي
البصمة الوراثية بمجموعة من الضمانات، لكي لايغدو توظيف هذه الوسيلة المهمة للوصول
ً في صدور أحكام تخالف الحقيقة. ويتطلب هذا القول مراعاة الشروط
إلى الحقيقة سببا
والاحتياطات الفنية اللازمة سواء من ناحية تحليل الحمض النووي، أو من جهة الوسائل
المستخدمة في البحث والتحري عن وجود الدليل، فتمثل هذه الضمانة الشرط الأساسي الذي
يمكن من خلاله التسليم بصحة النتائج التي تترتب على استعمال البصمة الوراثية في الإثبات.
وبالنسبة للتشريع الأردني فقد اقتصر النص على تكليف المدعي العام، أو الضابطة
العدلية المستنابة أو في حالة الجرم المشهود، ” بضبط كل ما يرى من آثار الجريمة وسائر
؛ ويمكن اصطحاب خبير أو أكثر إلى موقع (٩٧) الأشياء التي تساعد على إظهار الحقيقة”
. (٩٨) الجريمة عندما يتوقف تمييز ماهية الجريمة على المعرفة الفنية
ً في بناء الثقة
ً حاسما
والحق أن للكيفية التي يجري من خلالها ضبط “آثار الجريمة” دورا
في دلالات النتائج المترتبة على تحليل الحمض النووي بعد ذلك. لكن عملية الإثبات بواسطة
ٕ البصمة الوراثية لا تتوقف عند ضبط العينات وتحليلها، نما تتطلب إجراء المقارنة بين
وا
الخلايا المتحصل عليها من العينة مع خلايا المشتبه فيه، وذلك لتحديد التطابق أو الاختلاف
بينهما، الأمر الذي يطرح إشكالية قانونية تتمثل في الإجابة عن التساؤل الآتي: هل يتعين
الحصول على موافقة المشتبه فيه لكي يكون بالإمكان إخضاعه لتحليل الحامض النووي؟
ً لأهمية استعمال البصمة الوراثية في الإثبات الجنائي فقد صدر بتاريخ ١٩٩٢/٢/١٠ عن
لجنة وزراء المجلس الأوروبي التوصية رقم (99) R (التي بموجبها تحض اللجنة الدول أعضاء (٩٦) نظرا
(٩٨) المادة (٣٩) ق. أ. م. ج. (٩٧) المواد (٣٢) و (٤٦) و (٤٨) ق. أ. م. ج. الإدانة”. يمكن أن يمثل تحليل ال A .N .D. فائدة لنظام العدالة الجنائية عندما يتعلق بإثبات البراءة أو الإتحاد الأوربي على استخدام تحليل ال A .N .D. في نطاق العدالة الجنائية. فبالنسبة للجنة ”
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٥٣
ً : إخضاع المشتبه فيه لتحليل الحمض النووي:
ثانيا
إذا كان المبرر الأهم الذي يقوم عليه مبدأ حرية الإثبات هو حماية مصلحة المجتمع في
ٕ ، التي يصعب تحققها إذا انعدمت سنادها إلى (٩٩) مكافحة الجريمة
إمكانية إثبات الجريمة وا
مرتكبها بطرق الإثبات كافة، فإن وصول المجتمع إلى حقيقة الجريمة ومعاقبة من يرتكبها
لايجوز أن يطغى على حقوق الأفراد وحرياتهم، الأمر الذي يستدعي إحاطة وسائل المجتمع
. (١٠٠) في الوصول إلى الحقيقة بضمانات تحقق الحماية للحقوق والحريات
وأما علو شأن الدور الذي يؤديه التطور العلمي في المساهمة في إثبات الجرائم،
ً ، فلا يجوز أن يحجب حقيقة أن الثقة في الدليل المستمد من البصمة الوراثية
خصوصا
مصلحة المجتمع الأكيدة في كشف الحقيقة ليست المصلحة الوحيدة التي يتعين على المجتمع
تحقيقها. وتظهر في هذا الخصوص أهمية الدور الذي تؤديه إرادة من يراد إخضاعه لفحص
ً الحمض النووي، فعندما يتعلق الأمر بإجراء يمثل بحرمة جسد من يراد الحصول على
مساسا
. (١٠١) عينة من جسده فلا بد أن تطرح مسألة رضاء هذا الشخص
ً ي الحصول علي أن البحث في الرضا يكون عندما تظهر الحاجة ف
ويتعين أن نوضح أولا
عينات من جسد إنسان حي. فلا يعترض، خارج هذا الإطار، سلطة النيابة العامة في
ٕ سنادها إلى المشتبه فيه دون
استعمال تحليل الحمض النووي لتقديم الدليل على وقوع الجريمة وا
حاجة للحصول على رضاء هذا الأخير. فالقيام بمقارنة تحليل العينات البيولوجية التي تم
(٩٩) انظر ماسبق.
(100) MOLINA E. , op. cit. , no. 175
في الخصوصية، الأمر الذي يسمح بالكلام عما يطلق عليه “الحق في الخصوصية الجينية”. (١٠١) يشير البعض إلى وجود اعتداء آخر يترتب على استخدام الجينات الوراثية في الإثبات وهو الحق
انظر بالنسبة لهذا الاتجاه:
النهضة العربية، .٢٠٠٦ أشرف توفيق شمس الدين، الجينات الوراثية والحماية الجنائية للحق في الخصوصية، دار
العربية المتحدة، مايو .٢٠٠٢ أعمال مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون، كلية الشريعة والقانون، جامعة الإمارات
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٥٤
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
ضبطتها في مسرح الجريمة أو أي مكان آخر، مع مثيلاتها التي تم الحصول عليها من خلال
ضبط أشياء تعود للمشتبه فيه، كفرشاة أسنان تحتوي عادة على قليل من لعاب أو ملابس علق
، فالقانون (١٠٢) على بعضها كمية من شعر…إلخ، لا يحتاج إلى موافقة المشتبه فيه المسبقة
يمنح المدعي العام سلطة واسعة تمكنه من ضبط ” سائر الأشياء التي تساعد على إظهار
. (١٠٣) الحقيقة”
لكن الأمر يكون على غير ذلك عندما تستدعي الحاجة الحصول على عينات حيوية من
جسد المشتبه فيه من أجل مقارنتها مع العينات المضبوطة، فالحصول على عينات من جسد
ً بحرمة الجسد. فهل يكون بالإمكان إخضاع المشتبه فيه لإجراءات
المشتبه فيه يتضمن مساسا
ٕ . ذا استدعى القيام بذلك استعمال وسائل (١٠٤) تمس حرمة الجسد تحت ذريعة إظهار الحقيقة؟
وا
ً الإكراه والعنف للحصول على العينات المطلوبة، مثل هذا الاستعمال؟
فهل يعد مشروعا
الحق أن القبول بمساس إجراءات التحقيق بحرمة الجسد بحاجة لنص قانوني يبيحه. فكما
،ً من خلال هذه الدراسة، أن المساس بالحقوق الأساسية للإنسان لا يكتسب
بينا سابقا
.ً وعند تحقق هذا الشرط فإن إرغام
المشروعية إلا في الأحوال التي يجيزها القانون صراحة
ً المشتبه فيه على الخضوع للفحص المطلوب بالرغم من ممانعته من
يصبح بدوره ممكنا
الناحية القانونية، بشرط تحقق الضرورة، والتناسب. أي ألا يكون أمام أجهزة السلطة المخولة
ً عن استخدام الإكراه، وألا يعرض استعمال الإكراه سلامة الإنسان
بالقيام بالإجراء بديلا
الجسدية للخطر.
وبالنسبة للقانون الأردني فقد ألزمت، تحت عنوان إاثبات هوية المجرمين”، المادة (١١٠)
من قانون أصول المحاكمات الجزائية كل من أوقف لاتهامه بارتكاب جريمة بالإذعان ” لسائر
(102) PRADEL J. , Procedure penale, op. cit. , p. 382,no. 439.
(١٠٣) المادة (٣٢) ق. أ. م. ج.
(104) MONILA E. , op. cit. ,no. 177.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٥٥
المعاملات التي تثبت هويته”، و الخضوع لإجراء معاملة إثبات الهوية غير معلق على إرادة
من يقع عليه الإجراء؛ حيث يعتبر المشرع رفض الخضوع لإجراء هذه المعاملة جريمة يعاقب
ً
. وبإمكاننا القول إذن أن المشرع الأردني قد أجاز، (١٠٥) عليها بالحبس حتى أربعة عشر يوما
من حيث المبدأ، اتخاذ إجراءات قسرية في مجال المساس بحرمة الجسد. لكن هل يسعنا القول
بإمكانية التوسع في هذه الإجازة كي يكون بإمكان أجهزة التحقيق إخضاع المشتبه قيه، بالرغم
من إرادته، لفحص الحمض النووي من أجل الوصول إلى أدلة الجريمة؟. نعتقد بأنه يتعين
إجابة هذا السؤال بالنفي، ويستند رأينا في ذلك إلى السببين الآتيين:
،ً يجب أن تتحدد الإجازة الواردة في المادة (١١٠) بالغاية منها. وبما أن الغاية من
أولا
استخدام الإجراءات القسرية الواردة في هذا النص تتمثل في إثبات هوية المتهم في جريمة،
فيصبح التوسع فيها، كي تستعمل من أجل الحصول على الدليل الذي يثبت ارتكاب الجريمة،
مفتقدا . ويؤكد رأينا بعدم جواز التوسع بتفسير النص أن وسيلة الحصول ً إلى السند القانوني
على الدليل في الحالة المعروضة تقوم على المساس بأحد الحقوق الأساسية للإنسان.
،ً إن إرغام المشتبه فيه، دون إجازة القانون الصريحة، على الخضوع لإجراء الغاية
ثانيا
منه الوصول إلى دليل إدانة ضده يتضمن إهدارا . فمن بين مكونات هذا الحق ً لحقوق الدفاع
. (١٠٦) الذي يقوم على قرينة البراءة، عدم جواز إرغام الشخص على تقديم دليل ضد نفسه
(١٠٥) المادة (١١٠) ق. أ. م. ج.
(١٠٦) اتجهت المحكمة العليا الأمريكية نحو اعتبار أن إظهار الحقيقة يعلو على سائر الاعتبارات
الأخرى؛ لذا فهي تقرر أن إخضاع المشتبه في ارتكابه جريمة للفحص الطبي بالرغم من إرادته
لا ينتقص من الحق بالدفاع. فبالنسبة لهذه المحكمة إن احترام هذا الحق يقتضي عدم إرغام
،ً فهي تقرر أن المنع
ً ضيقا
ينحصر في حظر استعمال الإكراه المادي أو المعنوي من أجل الحصول على تصريحات، أما الشخص على الشهادة ضد نفسه. وتفسر المحكمة ذلك تفسيرا
يتعارض مع الحق في الدفاع، فالحظر لا يطال الأدلة المادية. استخلاص ما قد يحمل جسد المشتبه فيه من أدلة مادية باستخدام الوسائل العلمية فإنه لا
ويتضح من هذا القضاء أن المحكمة تستبعد تحريم المساس بحرمة الجسد من نطاق الحق في
الدفاع. ونعتقد أن الاعتبارات التي ساقتها المحكمة مستمدة من الرغبة في منح المزيد من
ٕ الفاعلية للعدالة الجزائية في الوصول إلى الحقيقة، ن جرى ذلك من خلال إهدار الحق
في حرمة الجسد. حتى وا
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٥٦
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
وصفوة القول أنه أمام حق المجتمع في الوصول إلى الحقيقة، ومصلحته الأكيدة في
مكافحة الجريمة لا يمكن استبعاد البصمة الوراثية من وسائل الإثبات الجزائي، بيد أن هذا
الاستعمال يتطلب إجازة القانون الصريحة، فيتعين على المشرع القيام بتنظيم الإثبات بواسطة
البصمة الوراثية، و لا بد لأي تنظيم قانوني أن يراعي ويأخذ في الاعتبار المسألتين الآتيتين:
أولا: إحاطة إجراءات الإثبات بمجموعة من الضمانات التي تؤكد سلامة الدليل. وسبب
ذلك هو أهمية الدور الذي يمكن أن يؤديه الدليل المستمد من البصمة الوراثية في بناء قناعة
القاضي الجزائي. فكما أسلفنا أن الدليل العلمي المبني على البصمة الوراثية قطعي النتائج.
:ً بما أن الإثبات بواسطة البصمة الوراثية ينطوي على المساس بالحق في حرمة
ثانيا
الجسد فيتعين أن يعنى التنظيم القانوني بتحديد حدود هذا المساس بالمقدار الذي تقتضيه
ضرورة الإثبات، وأن تتناسب الوسائل المستخدمة مع تحقيق هذه الغاية، فأي تجاوز لهذه
الحدود سيكون من قبيل التعسف، ويمثل إهدارا لحقوق الإنسان، و ستفتقد إجازة هذه الوسائل
. (١٠٧) المبررات المستمدة من مصلحة المجتمع
Holt Vs. US. 218 US,245,252-53 (1910)
Schmerber Vs. California. 384 US 751(1966)
Breithaupt Vs. Abram. 352 US 432 (1957)
،٦٠٣ هامش ١ و.٢ مشار إلى هذه الأحكام في : مصطفى العوجي، مرجع سابق، ص. ,٦٠٢ هامش ,٢ و ص.
(١٠٧) من بين المخاطر التي يمكن أن تثور في نطاق القانون الجزائي ما توصلت إليه بعض
الاكتشافات العلمية الحديثة فيما يتعلق بآثار الجينات الوراثية على سمات السلوك البشري. فقد
توصل بعض العلماء إلى اكتشاف أن الشيفرة الوراثية لبعض الأشخاص تحمل صفات عدوانية
قد تدفعهم إلى ارتكاب جرائم العنف. وقد ذهب هؤلاء العلماء إلى استنتاج أن العنف هو سلوك
ً إلى ما سموه ” الجبرية الجينية” بأن يكون من حق المجتمع اتخاذ
موروث، وطالبوا استنادا
الإجراءات الاحتياطية ضد من تدل شيفرته الجينية على أنه يحمل صفات عدوانية. وكأننا نعود
!ً
إلى الاعتقاد الذي ساد بوجود الإنسان الذي يولد مجرما
Mini symposium: Is criminal behavior genetic? Are some people born evil?,
http://forensicevidence. com
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٥٧
ولا يكفي تحديد الأدلة العلمية المستحدثة، وبيان ما هو مقبول منها في الإثبات الجزائي
وما يتعين رفضه، فلا تكتمل الصورة إلا في البحث في القواعد التي يتعين أن تضبط الوسائل
المستخدمة في التحصل على الدليل وبيان مدى توافقها مع متطلبات العدالة، ونقصد، على
وجه الخصوص، في هذا النطاق مبدأ النزاهة الذي يجب أن يحكم البحث عن الأدلة، وهذا
الموضوع هو الذي سنقوم بدراسته من خلال المبحث التالي.
المبحث الثاني
التراهة: مبدأ يحكم البحث عن الدليل
إذا كانت الأدلة جميعها تصلح، بحسب الأصل، للإثبات في المسائل الجزائية، فإن
البحث عن هذه الأدلة لا يكون بأية وسيلة كانت، فيتعين إحاطة هذه الوسائل
. (١٠٨) بالمشروعية
وتظهر على وجه الخصوص، أهمية مشروعية وسائل البحث عن الأدلة خلال مراحل
ً خلال هذه المراحل، أهم عمليات البحث عن
الدعوى التي تسبق المحاكمة؛ حيث تقع فعليا
ً لها خلال
الأدلة. ولا يعني هذا القول أن مشروعية وسائل البحث عن الدليل لا تجد تطبيقا
مرحلة المحاكمة. فيتعين على قاضي الحكم التحقق من مشروعية الدليل المقدم أمامه. وتحكم
كذلك المشروعية عمل المحكمة عندما تقرر من تلقاء نفسها البحث عن الدليل الذي “يساعد
. (١٠٩) على إظهار الحقيقة”
وخلاصة القول: إذا كان الدليل المقبول في الإثبات غير مقيد من ناحية النوع (كتابي أو
شفهي, مباشر أو غير مباشر، علمي أو غير علمي. . . إلخ)، حيث تحكم حرية الإثبات هذه
المسألة؛ فإن قبول الدليل في الإثبات مقيد بمشروعية وسيلة الحصول عليه. فالاعتراف، على
(108) GUINCHARED S. & BUISSON J. , op. cit. , p. 471, no. 463.
(١٠٩) تنص المادة (٢٢٦) ق. أ. م. ج. على أن ” للمحكمة في أثناء النظر في الدعوى أن تستدعي
الحقيقة”. من تلقاء نفسها أي شخص لاستماع أقواله كشاهد إذا رأت أن ذلك يساعد على إظهار
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٥٨
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
سبيل المثال، دليل يصلح لإثبات الجرائم، لكن عندما يكون التعذيب وسيلة الحصول عليه
يصبح هذا الدليل غير مقبول. وتصبح إذن، بصورة ما، مشروعية وسيلة الحصول على الدليل
ً على حرية الإثبات.
قيدا
ونود أن نشير إلى أن وصف المشروعية في هذا الجزء من الدراسة، يتعلق بوسائل
الحصول على الدليل، لكن التداخل بين الدليل ووسيلة الحصول عليه يجعل من الصعب في
أحيان كثيرة، الفصل بينهما، الأمر الذي جعل معظم الكتابات التي تتناول مشروعية وسائل
الإثبات تتكلم عن مشروعية الدليل ووسيلة الحصول عليه دونما تفرقة بينهما؛ فتصبح المشروعية
ً لهذا القول نضرب المثل الآتي:
صفة تلازم الدليل ووسيلة الحصول عليه. وتوضيحا
عدم مشروعية وسيلة الحصول على الدليل هو السبب الذي يمكن الاستناد إليه لاستبعاد
بعض الوسائل العلمية من نطاق الإثبات الجزائي، كجهاز كشف الكذب أو مصل الحقيقة،
فعدم المشروعية سببه أن الوسيلة المستخدمة حاطة من الاعتبار الواجب للإنسان، أو أنها
ً
. (١١٠) غير موثوقة النتائج، أو للسببين معا
وعدم مشروعية الاعتراف، أي الدليل، الناجم عن استخدام هذه الوسائل هو سبب
استبعاده؛ حيث يفتقد الاعتراف أحد شروطه القانونية، ونقصد هنا شرط صدور الاعتراف عن
إرادة حرة مدركة.
وأما بالنسبة لهذه الدراسة فقد حاولنا، قدر الممكن، الفصل بين موضوع مشروعية الأدلة
العلمية المستحدثة؛ حيث كنا قد تناولناه في القسم الأول من الدراسة، بالقدر الذي يخدم
غاياتها؛ وموضوع مشروعية وسائل الحصول على هذه الأدلة، الذي سنتناول ملامحه الرئيسية
خلال هذا القسم من الدراسة.
ً الفرع الثاني، من المطلب الأول، من المبحث الأول من هذه الدراسة، الواقع على
الصفحات (٢٧) وما يليها. (١١٠) انظر سابقا
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٥٩
والبحث عن الدليل عملية مركبة، ويحكمها نوعان من القواعد القانونية.
ً عملية مركبة لأن البحث عن الدليل يتكون في الحقيقة من عمليتين: الأولى،
فهو أولا
ً لهذا
البحث عن ماديات الجريمة؛ والثانية، البحث عن إسنادها لمن قام بارتكابها. وتوضيحا
القول نضرب المثل الآتي:عند العثور على جثة ملقاة في مكان ما، فعلى جهة التحقيق أن
ً سبب الوفاة، وأن تقوم بالبحث عن الدليل الذي يثبت ما إذا كان الاعتداء على هذا
تحدد أولا
الإنسان هو سبب هذه الوفاة (ماديات الجريمة)، وعند ثبوت ذلك يبدأ البحث عن الدليل الذي
. (١١١) يدين مرتكب الاعتداء (إسناد الجريمة)
ً يخضع البحث عن الدليل لنوعين من القواعد القانونية :
وثانيا
قواعد خاصة، يحدد من خلالها القانون الإجراءات الواجب اتباعها للوصول إلى دليل معين،
. (١١٢) أي يتم من خلال هذا النوع من القواعد إخضاع البحث عن الدليل لأشكال قانونية خاصة
كالقواعد التي تحدد الإجراءات واجبة الاتباع عند القيام بالتفتيش من أجل ضبط ما يساعد على
. (١١٤) ، أو القواعد التي يخضع لها الاستجواب من أجل الحصول على اعتراف (١١٣) كشف الحقيقة
،ً
ً قانونيا
وقد يترتب على عدم مراعاة القواعد التي تحكم البحث عن الدليل بطلان الدليل، إما بطلانا
ً كما في التفتيش، وفي الحالتين
ً جوهريا
كما هو بالنسبة للاستجواب في القانون الأردني، أو بطلانا
يؤدي البطلان إلى استبعاد الدليل الذي اتصفت وسيلة الحصول عليه بعدم المشروعية.
أما النوع الثاني من القواعد القانونية التي يخضع لها الدليل فهي قواعد عامة. فخلف
القواعد الخاصة، التي تعنى بتحديد الناحية التقنية في إجراءات البحث عن دليل،، أود قواعد
ً هذه الإجراءات، دون أن تختص بالضرورة بدليل بعينه. فالقواعد القانونية
عامة تحكم أيضا
(111) PRADEL J. , Procedure penale, op. cit. ,p. 335, no. 389.
(112) RASSAT M-L, op. cit. , p. 329, no. 209.
(١١٤) المادة (٦٣) ق. أ. م. ج. (١١٣) المواد من (٨١) إلى (٨٩) ق. أ. م. ج.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٦٠
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
التي تحظر الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة، أو على حرمة الجس، أو تحمي حقوق
الدفاع، جميعها من القواعد القانونية التي تحكم مشروعية الدليل بصفة عامة.
بيد أن القواعد القانونية ليست هي الوحيدة التي تحكم وسائل البحث عن الأدلة، فإلى
ً في تحديد الأطر التي يجب أن تجري
جانب هذه القواعد يوجد مبدأ النزاهة الذي يساهم أيضا
في حدودها عملية البحث عن الأدلة، فالنزاهة مبدأ يجب أن يحكم عمل أجهزة السلطة العامة
. وتختلف النزاهة عن القواعد القانونية من حيث (١١٥) في البحث عن الأدلة العلمية المستحدثة
مصدرها، فالنزاهة تستند إلى قواعد مصدرها الأخلاق.
والحق أن هذه المسألة تقع برمتها ضمن الإطار الذي تدور فيه التدابير الأمنية. وهو إطار
يتحدد بقيم المجتمع، أي تلك القيم التي توافق عليها أفراده لضبط سلوكهم. فقواعد الأخلاق والعرف
والقيم الدينية والحضارية جميعها، مع قواعد القانون تؤدي هذه الوظيفة. لكن ولئن كانت قواعد
القانون تحكم التدبير الأمني من حيث سلامته التشريعية في إطار المشروعية، فإن قواعد الأخلاق
ٕ تمثل ا إطار أفراد السلطة العامة حينما يقومون على تطبيق القانون. ن كانت ً أوسع يحكم سلوك
وا
السلطة التقديرية تحتل مساحة مهمة في عمل هؤلاء، فإنه لابد أن تتحدد هذه السلطة في إطار
منضبط من القيم التي تحمي أفراد المجتمع من تعسف أفراد السلطة العامة، وتضفي في الوقت ذاته
الاحترام الواجب على عمل السلطة الذي يجري في إطار يراعي قيم المجتمع وأخلاقه.
(١١٥) والحق أن تركيز البحث في هذا المجال، على الأدلة العلمية المستحدثة يعود إلى أن إجراءات
المساس الذي يبرره ضرورة الوصول إلى الحقيقة. البحث عن هذه الأدلة تشترك في أنها تنطوي على المساس بحقوق أساسية للإنسان، هذا
والأماكن الخاصة يمس في الحق في الخصوصية وحرمة المسكن، والقبض والتوقيف يعلق ومعلوم أن هذا النوع من الأدلة ليس الوحيد الذي يمس بحقوق الإنسان، فتفتيش المساكن
ً
ً خاصا
استعمال الحق في حرية التنقل. . . إلخ، لكن تبرير المساس بحقوق الإنسان يتخذ بعدا
عندما يتعلق بالأدلة العلمية المستحدثة، ويعود سبب ذلك إلى الاعتقاد بأن الوصول إلى الحقيقة
مبدأ النزاهة الذي يجب أن يحكم البحث عن هذا النوع من الأدلة. حماية أفضل لحق المجتمع في مكافحة الجريمة، الأمر الذي يضفي بدوره أهمية خاصة على التي لا يعتورها الشك يتحقق من خلال استخدام هذا النوع من الأدلة. ، أي يمكن أن تحقق
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٦١
وستتحدد دراستنا للقواعد التي تحكم وسائل البحث عن الدليل بمبدأ النزاهة من حيث إن
هذه المسألة تثير إشكاليتين رئيسيتين، الأولى ذات طبيعة مفاهيمية تتمثل بمحددات المبدأ،
والأخرى بتطبيق المبدأ، أي كيف يمكن أن تقيد النزاهة البحث عن الأدلة. وسنعمل على
دراسة هاتين الإشكاليتين من خلال مطلبين نخصص أولهما للبحث في ماهية المبدأ، ونتناول
في ثانيهما تقييد النزاهة للبحث عن الدليل.
المطلب الأول
محددات التراهة في مجال البحث عن الأدلة.
. (١١٦) النزاهة مبدأ عام لم يرد عليه نص في القانون، يحكم البحث عن أدلة الجريمة
ويستمد المبدأ وجوده من المبادئ الأخلاقية التي يجب أن يخضع لها القضاة وأفراد السلطة
العامة عند قيامهم بالأعمال الموكل إليهم القيام بها. لكن ما المقصود بالنزاهة في هذا
المجال؟
لا يوجد تعريف محدد للنزاهة في مجال البحث عن الأدلة. والقضاء الفرنسي الذي
ً للمبدأ، نما (١١٧) يستخدم في العديد من الأحكام تعبير ” مبدأ نزاهة الأدلة ”
ٕ ، لم يضع تعريفا
وا
اكتفى عند الحاجة للبيان، بالإشارة إلى ” وقوع تدليس من شأنه أن يعيب البحث عن الحقيقة
ٕ ثباتها”
. (١١٨) وا
وتظهر الحاجة لإعمال مبدأ النزاهة بشكل أكبر عند استخدام الوسائل العلمية في البحث
، حيث يصبح المجال أوسع في استخدام الحيلة والخداع من أجل الوصول (١١٩) عن الدليل
(116) MERLE R. & VITU A. , op. cit. , p. 162, no. 129.
(117) Le principe de loyaute des preuves
(118) PRADEL J. , procedure penale, op. cit. ,p. 390,no. 447.
ً ليطال الحق
ٕ (١١٩) نما يمتد أيضا
لا ينحصر نطاق تطبيق مبدأ النزاهة في البحث عن الدليل فقط، وا
بالدفاع. فيتعين، على سبيل المثال، قيام أفراد الضابطة العدلية أو النيابة العامة بإفهام المشتكى
عليه حقوق الدفاع التي قررها القانون.
PORTERONC. ,Droit a linformation et procedure penale,These Nice,2002,p. 120,no. 87.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٦٢
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
للدليل. و لا يعني هذا القول أن مبدأ النزاهة في البحث والتقصي من أجل اكتشاف المجرمين
ً عن استراق السمع من خلف
والوصول إلى أدلة الجريمة، خاص بالأدلة العلمية، لكن عوضا
الأبواب، أو التلصص، يتيح استخدام الوسائل العلمية تحقيق ذلك بفاعلية أكبر. فيصبح
التنصت من خلال مراقبة الاتصالات الهاتفية أو الالكترونية، أو استعمال التقنيات التي تتيح
المجال للاستماع للأحاديث الخاصة والتقاطها عن بعد، أو التقاط الصور. . . إلخ هي
ً من أن يستند الدليل إلى شهادة من سمع
الوسيلة المستخدمة في الحصول على الدليل. وبدلا
أو رأى، مع كل ما يمكن أن يعتور البينة الشخصية من شك، يكون بالإمكان تسجيل الصوت
أو الصورة وتقديمه كدليل مادي.
فعلى الرغم من أن التقنيات العلمية تتيح وسائل أكثر فاعلية بالإمكان استخدامها من أجل
الوصول إلى الدليل، لكن، وفي الوقت ذاته، يضيق هذا الاستخدام من مساحة النزاهة التي
يجب أن تتصف بها عملية البحث عن الأدلة وجمعها، الأمر الذي دفع البعض إلى القول:”
ً مع النزاهة”
. فيجمع بين الوسائل العلمية التي تستخدم في (١٢٠) إن الفاعلية لا تتوافق غالبا
عتداء ، وبسبب ذلك تظهر ً جمع الأدلة سمة مشتركة هي أنها تتضمن ا على حرية الإرادة
الإشكالية المتمثلة بتطبيق مبدأ النزاهة عند استخدام هذا النوع من الوسائل.
ويتضح مما تقدم أن أية محاولة ترمي إلى تحديد النزاهة في مجال البحث عن الأدلة لا
بد أن تنطلق من ضرورة احترام حرية الإرادة. فأي عمل تقوم به السلط المختصة بالبحث عن
أدلة الجريمة وجمعها، قد يتسم بعدم النزاهة إذا كان من شأنه أن يضعف حرية الإرادة أو
يعدمها. فالحيلة أو الخديعة أو المكر أو الغش أو التدليس أو الوعد أو التهديد من شأنه أن
يؤدي، إذا استخدم في البحث عن الأدلة، إلى القول بأن هذا البحث قد وقع بوسائل تفتقد إلى
. (١٢١) النزاهة
(120) PORTERON C. ,op. cit,loc. cit.
(121) PRADEL J. , Procedure penale, op. cit. , p. 391, no. 447.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٦٣
ويطال إذن عدم النزاهة في البحث عن الأدلة الحقوق الواجبة للفرد؛ لكن يتضمن في
ً في الاعتبار الواجب للعدالة الجزائية والأجهزة القائمة عليها. وتمثل الوظيفة
الوقت ذاته مساسا
التي يؤديها مبدأ النزاهة من ناحية الحد من حرية الإثبات، إحدى أهم المعطيات التي يمكن
، الأمر الذي يعني أن الوقوف على محددات المبدأ (١٢٢) الركون إليها في بيان محددات المبدأ
يقتضي بيان الدور الذي يؤديه في المحافظة على حقوق الأفراد من ناحية، ودوره في
المحافظة على الاعتبار الواجب للقضاء من ناحية أخرى.
الفرع الأول
المحافظة على حقوق الأفراد
إلى جانب الحق في المحاكمة العادلة والضمانات التي تتعلق بالحق بالدفاع التي يكفلها
القانون من خلال تنظيم إجراءات التحري والتحقيق والمحاكمة، يجب أن يجري البحث عن
الدليل في إطار النزاهة؛ حيث يصعب عزل النزاهة التي يجب أن يجري في إطارها البحث
. فمتطلبات هذا الاعتبار تحول دون (١٢٣) عن الدليل عن احترام الاعتبار الواجب للإنسان
الحصول على الاعتراف دون مراعاة إرادة المعترف الحرة، وسيان وقوع ذلك من خلال
. (١٢٤) استخدام الشدة أو العنف، أو باللجوء إلى الحيلة أو الخديعة، أو باستعمال وسائل علمية
ومن الأسباب التي تقطع بعدم جواز استخدام الوسائل العلمية التي يكون من شأنها
إضعاف إرادة المشتبه فيه أو إعدامها ما يستند إلى أن إنكار الحقيقة، أو الصمت، أو ادعاء
مايخالف الحقيقة جميعها تدخل ضمن إطار وسائل الدفاع.
(122) MOLINA, op. cit. ,p. 450,no. 436.
(123) MOLINA, op. cit. ,p. 45٥,no. 4٤١
(124) KOERING-JOULIN R. , ‘’ La dignite de la personne humaine en droit penal’’ in La dignite de
la personne humaine, Economica,1999,p. 67.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٦٤
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
ً مع
ٕذا كان يحظر استخدام التعذيب في الحصول على أدلة الجريمة لأنه يتنافى قطعا
وا
، فإنه يتعين أن يدخل في إطار الحظر ذاته استعمال أية وسيلة (١٢٥) الاعتبار الواجب للإنسان
ً اختفاء التعذيب
من شأنها المساس بالحق في السلامة الجسدية أو النفسية للفرد. فليس مقبولا
من وسائل الحصول على الاعتراف بجريمة أو على معلومات بشأنها لكي يحل مكانه
استعمال وسائل علمية من شأنها الحط من الاعتبار الواجب للإنسان. فأي استعمال لهذه
الوسائل لا بد أن يراعي، كحد أدنى، السمات الأساسية التي يجب أن يتسم بها الاعتراف، أي
،ً وأن تحترم وسائل الحصول عليه حق المشتبه فيه بالصمت. أن يكون حرا، و ً
ً إراديا
واعيا
ً لمشروعية إجراءات البحث عن الأدلة، وتمثل صمام
وصفوة القول: أن النزاهة تعتبر متطلبا
. حيث تتحد أحكام القانون (١٢٦) الأمان في مواجهة التعسف الذي قد يحيط بتطبيق حرية الإثبات
ومبادئ الأخلاق من أجل العمل على الحد من وقوع أي تعسف ممكن. بيد أن أهمية المبدأ ربما
مثلت الصعوبة الأهم التي تعترض إمكانية الوقوف على مفهوم محدد يختص به مبدأ النزاهة في
مجال الإجراءات الجزائية. فيتصل المبدأ بحقوق الدفاع، والحق في المحاكمة العادلة، وحياد
القضاة، والاعتبار الواجب للإنسان، وكذلك الاعتبار الواجب للعدالة الجزائية.
الفرع الثاني
المحافظة على الاعتبار الواجب للعدالة الجزائية
من أجل الوقوف على الدور الذي يمكن أن تؤديه النزاهة من ناحية تأمين الاعتبار
الواجب للقضاء والنيابة العامة و الضابطة العدلية، يتعين الانطلاق من إجابة التساؤل الآتي:
ما الذي ينتظره المجتمع، أمام ظاهرة زيادة أعداد الجرائم وتنامي خطورتها، من الأجهزة
. (١٢٧) الرسمية المناط بها مكافحة الجريمة ومعاقبة من يرتكبها؟
الجرائم المخلة بالإدارة القضائية. ( المادة ٢٠٨ من قانون العقوبات الأردني). (١٢٥)يعتبر استخدام العنف والشدة بقصد الحصول على إقرار بجريمة أو على معلومات بشأنها من بين
(126) MOLINA, op. cit. , p. 457,no. 443.
(127) MOLINA, op. cit. , p. 45٠, no. 437.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٦٥
بالطبع أن حاجة الجماعة لإشباع الشعور بالأمن تدفع أفراد المجتمع إلى أن توقع فاعلية
، لكن دون القبول بأن يتم ذلك من خلال التجاوز (١٢٨) كاملة في قمع الجرائم والحد من وقوعها
. يقع إذن على (١٢٩) على المبادئ الأساسية التي يفترض أفراد المجتمع أن تحكم هذه العملية
عاتق الأجهزة القائمة على تحقيق العدالة الجزائية كبح الجرائم، لكن يتعين عليها أن تؤدي هذه
المهمة بنزاهة، أي الامتناع عن انتهاج طرق لا تتسق مع الاحترام والثقة اللذين يتوقعهما
. (١٣٠) المجتمع من هذه الأجهزة
والحق أن موضوع النزاهة الذي يجب أن يحاط به عمل السلطة في البحث عن الأدلة
. فمن ناحية، يضفي استبعاد أدنى درجة من عدم (١٣١) يطرح جدلية العلاقة بين الغاية والوسيلة
النزاهة أعلى درجات الشرعية على الإجراء الذي تقوم به السلطة، لكن من الناحية الأخرى
لاتكون ناجزة هذه الشرعية إلا عندما تكون العدالة فعالة، حتى ٕوان اقتضى تحقيق الفاعلية
اتخاذ إجراءات لا تتسم بالنزاهة الكاملة.
وتفسر لنا هذه الحقيقة لماذا لايعتبر كل خداع مستخدم ضمن وسائل الكشف عن الجريمة
،ً على سبيل المثال، أن للنزاهة التي تتطلبها هذه الأعمال
ً ؟ فبات مقبولا
وجمع أدلتها مناقضا
ً غير حقيقيين، وأن
يتنكر رجل السلطة العامة، أو يغير في هيئته، أو ينتحل صفة أو اسما
يتسلل لمعاقل المجرمين من أجل كشف الجريمة والمجرم، وجمع الأدلة. فهذه الوسائل وغيرها،
ٕ ن اتسمت جميعها بالحيلة والخداع فإنها لاتمس الاعتبار الواجب لرجال السلطة الذي يرمي
وا
ً الوسيلة الوحيدة المتاحة التي يمكن الركون
مبدأ النزاهة إلى تحقيقه؛ حيث تكون الحيلة أحيانا
(128) FAGET J. , Sociologie de la delinquance et de la justice penale, Eres, 2005, p. 136.
ً لملاحقة غير قانونية. إذا كان بإمكان أغلبنا أن يتأكد من أنه لن يرتكب مايخالف أحكام القوانين الجزائية، فإنه ليس (١٢٩) والحق أن هذا الطلب يستند إلى الحقيقة التالية التي تحكم شعور أفراد المجتمع :
بوسع أي منا التأكد من أنه لن يكون محلا
GARRAUD R. , Traite theorique et pratique d instruction criminelle et de procedure
penale, Siery, 1907, T. 1, p. 4,no. 1 .
(130) BOUZAT P. , op. cit. ,p. 165,no. 447.
(131) PRADEL J. , procedure penale, op. cit. , p. 391, no. 447.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٦٦
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
إليها في مكافحة بعض أنواع الجرائم الخطرة، كالاتجار بالمخدرات أو بالأشياء الخطيرة، أو
تأليف التنظيمات الإرهابية….. إلخ.
وتختلف محددات النزاهة المتعلقة بالبحث عن الأدلة بحسب المرحلة الإجرائية التي يجري
،ً بحسب ما نعتقد، إلى العلاقة التي تربط النزاهة
فيها هذا البحث. ويرجع سبب ذلك أيضا
بفاعلية العدالة الجزائية. فكلما ازدادت الفاعلية المتوقعة من أجهزة السلطة العامة في مرحلة
ً أن البحث
إجرائية معينة ضاقت متطلبات النزاهة المطلوبة في عمل هذه الأجهزة. ومعلوما
عن الدليل يجري عادة ، مرحلة التحقيق الأولي أو التحري الذي يقوم ً في ثلاث مراحل إجرائية
به أفراد الضابطة العدلية، ومرحلة التحقيق الابتدائي الذي تضطلع به بحسب الأصل النيابة
العامة، ومرحلة التحقيق النهائي أو المحاكمة الموكول لقضاة الحكم القيام بها. وبما أن
المرحلة الأولى أكثر هذه المراحل فاعلية في البحث عن الأدلة، فإن ما يقبل من أفراد
الضابطة العدلية القيام به في هذه المرحلة يكون محل اعتراض إذا لجأت إليه النيابة العامة،
. (١٣٢) ويكون الاعتراض أكبر عندما يكون قضاة الحكم هم من يستخدم هذه الوسائل
ويجب أن نبين بأن طبيعة العمل هي التي تحدد مقبوليته أو عدمها، وليست صفة القائم
به، فأعمال التحقيق الابتدائي التي يقوم بها أفراد الضابطة العدلية بالإنابة عن المدعي العام
. بمعنى آخر (١٣٣) تخضع لمحددات النزاهة ذاتها التي يتعين توافرها في أعمال النيابة العامة
ً أو غير
يستند الفارق الذي يحكم هذه المسألة إلى طبيعة العمل الإجرائي إن كان قضائيا
قضائي. ويعتمد تحديد اتصاف العمل بالنزاهة أو عدمه إلى وقت القيام به، أي وقوع الإجراء
قبل كشف مرتكب الجريمة وبداية التحقيق أو بعد شروع النيابة العامة بالتحقيق، فما قد لا
يتعارض مع النزاهة في الحالة الأولى قد لا يتسق مع متطلباتها في الحالة الثانية.
(132) MOLINA E. , op. cit. ,460 et suivant.
(133) Crim. 12 juin1952, B. C. no. 153; PRADEL J. Et VARINARD A. , op. cit. , T. 2, no. 12.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٦٧
المطلب الثاني
تقييد البحث عن الأدلة
يقع عبء البحث عن أدلة الجريمة، في النطاق الجزائي، على السلطة العامة التي
تضطلع بالتحقيق من أجل كشف الجرائم والوقوف على أدلتها ليتسنى لها تقديمها أمام قضاء
الحكم لكي تساهم في بناء قناعة القاضي الجزائي و تمكينه من الحكم. لكن لا يمتنع على
ٕ الشخص العادي البحث كذلك عن أدلة الجريمة التي يدعي وقوعها. ذا كانت النزاهة تقيد
وا
عمل السلطة العامة في البحث عن الدليل فهل تؤدي الدور ذاته عندما يكون الشخص العادي
هو الذي يقوم بالبحث عن الدليل؟
الفرع الأول
تقييد بحث السلطة العامة عن الدليل بالتراهة
يتعين، كما أسلفنا، التفرقة بين عمل السلطات المختلفة في البحث عن الدليل من ناحية
مدى التزام كل منها النزاهة التي يجب أن تحكم هذا البحث.
ً على أن على القضاة التزام أقصى درجات النزاهة في البحث عن
فإذا كان الاتفاق منعقدا
الأدلة سواء في مرحلة التحقيق أو المحاكمة؛ حيث تتعلق النزاهة بالاعتبار والاحترام الواجبين
، فإن الضابطة العدلية تتمتع بمرونة أكبر خلال عملها في البحث عن الدليل، (١٣٤) للقضاء
الأمر الذي يعني أن يكون للنزاهة دور أقل صرامة عندما تتعلق بالبحث عن الدليل في مرحلة
التحري الذي تقوم به الضابطة العدلية. ويعود ذلك إلى سببين يدوران في جوهرهما حول الفكرة
ُستند إليه للحد من الدور الذي تؤديه النزاهة
ً ي
ً مشروعا
التالية: تمثل فاعلية تحقيق العدالة سببا
(١٣٤) انظر فيما يتعلق بهذا الموضوع :
PRADEL J. , op. cit. ,p. 390,no. 447; RASSAT M. L. , op. cit. ,p. 329,no. 209;
GUINCHARED S. Et BUISSON J. ,op. cit. , p. 473,no. 468; COTE Ph. et DU
CHAMBON P. , op. cit. ,p. 42,no. 68; MERLE R. Et VITU A. ,op. cit. , p. 163,no. 130.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٦٨
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
ً لهذه الفكرة يمكن لنا (١٣٥) في البحث عن الأدلة لمصلحة التوسع في حرية الإثبات
. وتفصيلا
أن نوضح هذين السببين على النحو الآتي:
يستند السبب الأول إلى حقيقة الاختلاف بين طبيعة العمل الذي تقوم به الضابطة العدلية
عن الأعمال التي يقوم بها القضاة. فعلى الرغم من أن هذه الأعمال تتراتب جميعها فيما بينها
ضمن سلسلة من الإجراءات التي تهدف إلى تحقيق غاية نهائية واحدة هي الوصول إلى
، إلا أن العمل الذي يقوم به رجال الأمن، الذين يشكلون المكون الرئيسي للضابطة (١٣٦) الحقيقة
العدلية، تختلف طبيعته عن ذلك الذي تقوم به النيابة العامة أو قضاة الحكم. فمأمور الضابطة
ً بالتحري عن الجرائم، يتحتم أن تكون علاقته مباشرة بالجريمة العدلية، باعتباره محقق
ً مكلفا
ا
والمجرم، بينما يأتي دور النيابة العامة التي تتولى التحقيق في مرتبة تالية تقترب بها من قضاة
. وبما أن أخلاقيات المهنة تختلف بحسب طبيعة المهنة، فبإمكاننا القول: إن (١٣٧) الحكم
أخلاقيات المهنة التي تحكم عمل الضابطة العدلية هي ليست ذاتها التي تحكم عمل القضاة.
ويمكن القول إذن أن النزاهة التي يجب أن تحكم عمل السلطات كافة في البحث عن
الأدلة تختلف متطلباتها بحسب الدرجة التي يجري فيها هذا البحث. بيد أنه لا يجوز لهذه
ً للقول بتحلل الضابطة العدلية من قيد النزاهة خلال مباشرة سلطاتها في
الحقيقة أن تكون سندا
وا ، ويؤيد هذه النتيجة السبب ٕ البحث عن الأدلة، نما درجة النزاهة أو محدداتها هي التي تختلف
الآخر الآتي.
يقوم عمل الضابطة العدلية على استقصاء الجرائم وجمع أدلتها والكشف عن
ً . والحق أن هذا العمل على درجة كبيرة من لم يبدأ (١٣٨) مرتكبيها
ً قضائيا
مادام أن تحقيقا
(135) MOLINA, op. cit. , p. 460,no. 446.
(136) GUINCHARED S. Et BUISSON J. ,op. cit. , p. 474,no. 469
(137) BLOND M. ,Les ruses et les artifices de la police au cours de l inquete preliminaire, J.
C. P. 1958 , II , 1419.
(١٣٨) المادة (٨) ق. أ. م. ج.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٦٩
الصعوبة ويتطلب القيام به حرية أكبر في الحركة؛ حيث إن التحري لايضع، على الأغلب،
ً في مواجهة المجتمع، على خلاف الحال في الدعوى الجزائية، ٕوانما تكون
عند بدايته متهما
ً؛ حيث يواجه مأمورو الضابطة العدلية في الواقع عالم المجرمين. والواقع
الصورة أقل وضوحا
أن عمل الضابطة العدلية يبدأ في معظم الأحيان، حيث لاتوجد دلائل يمكن الاستناد إليه في
توجيه الشبهات في اتجاه معين، ويجري ذلك تحت ضغط الرأي العام الذي يطالب بالكشف
. فعندما تقع جريمة يطالب المجتمع أن تضاعف (١٣٩) عن مرتكب الجريمة على وجه السرعة
الضابطة العدلية جهودها وأن تتحرك بشكل سريع وفعال وأن تنجح في الكشف عن ملابساتها
. فالواقع العملي والإطار القانوني الذي تمارس من خلاله الضابطة العدلية أعمالها (١٤٠) كافة
يؤديان إلى أن يكون للنزاهة أثر نسبي في مرحلة التحقيق الأولي.
ولكن لا يسند الأثر النسبي للنزاهة أي مبرر قانوني عندما تقوم الضابطة العدلية بأعمال
ً على إنابة من النيابة العامة
؛ حيث تكون الضابطة العدلية ملزمة باحترام (١٤١) التحقيق بناء
، (١٤٢) متطلبات النزاهة التي تقيد عمل النيابة العامة في” استقصاء الجرائم وتعقب مرتكبيها”
وليس للضابطة العدلية تجاوز متطلبات النزاهة التي ترسم الحدود لحرية البحث عن الدليل في
. (١٤٣) مرحلة التحقيق النهائي
ً تحلل
ونود أن نؤكد أن نسبية النزاهة في تقييد حرية البحث عن الدليل لاتعني مطلقا
الضابطة العدلية من التزام النزاهة في البحث عن الأدلة في مرحلة التحقيق الأولي، وسنرى
،ً والتحريض على الجريمة
هذه الحقيقة من خلال استخدام الضابطة العدلية للحيلة والخداع أولا
.ً
ثانيا
جريمة معينة خلال مدة لم تتجاوز….. (١٣٩) ليس من النادر أن تطالعنا الصحف بخبر يفيد أنه: ألقى رجال الأمن القبض على مرتكب
(140) BLONDET M. , op. cit.
(١٤١) المادة (٤٨) ق. أ. م. ج.
(١٤٢) المادة (١٧) ق. أ. م. ج.
(143) Crim. 12juin1952,cite.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٧٠
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
:ً اللجوء للحيلة والخداع:
أولا
لا يتسق مع مقتضيات النزاهة استخدام الحيلة والخداع في البحث عن الأدلة، حيث
يتضمن استخدام الحيلة أو الخداع اعتداء . ً على حرية الإرادة
لكن تتعدد الأعمال التي يقوم البحث عن الدليل فيها على اللجوء إلى الحيلة أو الخداع،
ً لذلك بالأمثلة الآتية:
ونضرب تمثيلا
انتحال مأمور الضبط القضائي صفة غير حقيقية من أجل حمل المشتبه فيه على الإدلاء
بقول أو القيام بفعل ما كان يمكن القيام به إذا كان على علم بصفة المتعامل معه الحقيقية، أو
التنكر بهيئة أخرى أو تعمد عدم ارتداء الزي الرسمي أو حمل الشارات الذي يدل على هوية
مأمور الضبط القضائي الحقيقية، أو مجرد الامتناع عن الإعلان عن الصفة الحقيقية، أو
القيام بتسجيل أحاديث دون علم من يجري هذا التسجيل في مواجهته، أو حمل الغير على
الاتصال بالمشتبه فيه وتسجيل ما يدور بينهما من حديث دون علم الأخير، وينصرف القول
ذاته لالتقاط الصور.
ًصور من التدليس، حيث تقوم على إيقاع المشتبه فيه بالغلط،
وتعد هذه الأعمال جميعها ا
ولا يغير من ذلك كون الغاية منها هي الوصول إلى أدلة الجريمة. فهل يعني هذا القول وجوب
رفض اللجوء إلى أية وسيلة من قبيل تلك التي تفتقد النزاهة، ٕواعلان بطلان الدليل المتحصل
من خلالها؟.
الحق أنه يصعب الرفض المطلق لكل دليل كانت وسيلة الحصول عليه الحيلة أو
.ً لكن نسبية النزاهة في التطبيق لا الخديعة،
ً نسبيا
فالضرورة تقتضي تطبيق مبدأ النزاهة تطبيقا
يجوز أن تكون منفلتة من أي قيد، والقيد الذي يحكمها مستمد من جسامة الجريمة المراد
؛ وذلك لأنه يجب على المجتمع أن يكافح الجرائم، وعلى وجه الخصوص تلك التي (١٤٤) إثباتها
(144) MOLINA E. , op. cit. ,p. 477,460
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٧١
ً يهدد أمنه وسلامته، وله في سبيل تحقيق ذلك اللجوء إلى وسائل التحقيق
ً شاملا
تمثل خطرا
الضرورية لتحقيق هذه الغاية.
والحق أن تناسب رد الفعل الاجتماعي مع جسامة الجريمة ليست فكرة طارئة على القانون
فالقواعد الموضوعية ت . أو ليس القانون يحدد شدة العقوبة ُ الجزائي، بنى على هذا التناسب
بالمقابلة بين الجزاء وجسامة الجريمة، وتطال فكرة التناسب القواعد الإجرائية عند الكلام عن
صعوبة إثبات بعض أنواع الجرائم الخطيرة.
لكن تطبيق التناسب بين إجراءات البحث عن الدليل وخطورة الجريمة لايخلو من مخاطر في
ظل غياب التنظيم التشريعي للمسألة، فتعليق هذا التطبيق على إرادة مأموري الضبط القضائي
التي تقودها رغبة الوصول إلى المعاقبة بفاعلية عندما يقررون أنههم يواجهون جرائم خطيرة،
ُخشى
ي أن يؤدي في التطبيق العملي إلى تعسف أجهزة ُخضع تطبيق التناسب لمعيار شخصي ي
السلطة العامة؛ لذا يتعين على المشرع التدخل من أجل إعادة تنظيم إجراءات البحث عن الدليل
في مرحلة التحري استنادا . بيد أنه قد يعترض ً إلى مبدأ التناسب بين الإجراءات وجسامة الجريمة
ً بالمساواة في الحريات الشخصية الواجب مراعاتها. لكن يمكن
على هذا القول بأنه يمثل إخلالا
الرد على مثل هذا الاعتراض بالقول بعدم وجود ما يحول دون أن يتناسب الحق في احترام
. فجرائم (١٤٥) الحريات الشخصية مع مقدار الخطر الذي تسببه الجريمة للمصلحة العامة للمجتمع
كالرشوة أو تهريب المخدرات والاتجار بها أو الإرهاب أو تزوير العملة، على سبيل المثال، تلحق
ً بالنظام الاجتماعي، إضافة إلى صعوبة الكشف عنها وجمع أدلة إثباتها دون
ً خطر خاصا
جميعها ا
اللجوء إلى وسائل من نوع خاص وا . فادعاء رجل السلطة العامة رغبته في ٕن اتسمت بعدم النزاهة
شراء مخدرات وتعامله بهذه الصفة مع من يتاجر بها، وسيلة لا يمكن التجاوز عنها في مكافحة
هذا النوع من الجرائم وا . ٕن اتسمت بالحيلة والخداع
(145) LEVASSEUR G. , Les methodes scientifiques de recherche de la verite,R. I. D. P.
1972,p. 347
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٧٢
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
وطبق القضاء الفرنسي مبدأ التناسب على الأدلة الجزائية، وأضفى مرونة على تطبيق
ً بالحاجة إلى مكافحة الجريمة بطرق أكثر فاعلية
؛ (١٤٦) النزاهة في البحث عن الأدلة مدفوعا
ً يتجه نحو التوسع في قبول
ً قضائيا
حيث يمكن القول، كما يلاحظ البعض، أن هناك اتجاها
بعض وسائل التحري التي تعد من قبيل الحيلة والخداع، فبالرغم من الاعتراف بعدم اتساقها
مع متطلبات النزاهة، إلا أنها تهدف إلى تحقيق الفاعلية في البحث عن الأدلة، وعلى وجه
الخصوص عندما تدخل المسألة في نطاق مكافحة بعض أشكال الإجرام الخطرة صعبة
. (١٤٧) الإثبات
وصفوة القول أن تقرير ما إذا كانت الإجراءات تتسم بجملتها بمراعاة مبادئ العدالة يقوم
ً على ضرورة مراعاة المصلحة العامة في مكافحة بعض أنواع الجرائم وملاحقة مرتكبيها.
أيضا
وهنا لابد من الموازنة بين مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد في أن يتم الحصول على أدلة
الإثبات من خلال استخدام وسائل مشروعة؛ لذا فإن القول بإيلاء المصلحة العامة أهمية
ً للقبول بإجراءات تفرغ حقوق
خاصة في مواجهة بعض أنواع الجرائم لا يصلح البتة أساسا
الدفاع من جوهرها، ويعد حظر قيام أفراد الضابطة العدلية بالتحريض على ارتكاب الجريمة
ً لهذه المسألة.
ً واضحا
من أجل الوصول إلى الدليل، تجسيدا
:ً التحريض على ارتكاب الجريمة
ثانيا
إذا كان استخدام بعض صور الحيلة والخداع للكشف عن الجريمة والوقوف على أدلتها
من خلال الإيقاع بمرتكبها لا يتعارض بالضرورة مع المشروعية التي يتعين أن تحكم عمل
سلطات التحقيق، لكن الإيقاع بمرتكب الجريمة لا يجوز أن يصل إلى حد التحريض على
ارتكابها. فيعد خارج إطار النزاهة التي يجب أن تحكم البحث عن الدليل مساهمة من سلطة
(١٤٦) للوقوف على تطبيقات القضاء الفرنسي في هذا الموضوع، انظر:
PRADEL J. ,procedure penale,op. cit. ,p. 391,no. 448 s .
(147) MOLINA E. , op. cit. ,p. 480,no. 461
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٧٣
التحقيق في خلق فكرة الجريمة لدى شخص للإيقاع به. إذن بحسب المبدأ يحظر على السلطة
. غير أنه تصعب التفرقة في أحيان كثيرة، بين (١٤٨) القيام بالتحريض على ارتكاب جريمة
،ً وذلك لأن التحريض في
التحريض على الجريمة والتحريض على الدليل الذي لايعد محظورا
نطاق البحث عن الأدلة يقع ضمن استعمال الحيلة التي غايتها الوصول إلى أدلة الجريمة،
. و يطرح موضوع (١٤٩) فالتحريض يمثل أعلى درجات الحيلة في مجال البحث عن الأدلة
ً حول الأسباب التي يستند إليها حظر
استخدام التحريض في الحصول على الدليل تساؤلا
التحريض، لكي يكون بالإمكان بيان الحدود التي يقع ضمنها التحريض الممنوع على الدليل.
أ) أسباب حظر التحريض:
. وعلى الرغم (١٥٠) التحريض من الناحية القانونية هو “حمل الغير على ارتكاب جريمة”
، فإنه لايعد من موانع مسئولية (١٥١) من أن التحريض يؤثر في حرية إرادة َّ المحرض واختياره
، أو من قبيل أسباب التبرير التي ترفع الصفة الجرمية عن (١٥٢) فاعل الجريمة ( َّ المحرض)
ً يخفف عقوبته، لذا فإن مسئولية َّ المحرض تكون عن الجريمة
ً مخففا
ً فعله، أو حتى عذرا
كاملة
، وليس أمام القاضي الذي يرى، بالنظر للظروف التي أحاطت بارتكاب (١٥٣) التي يقترفها
ً الجريمة،
ً تقديريا
تخفيف العقوبة سوى استعمال سلطاته التقديرية واعتبار التحريض سببا
ً
. (١٥٤) مخففا
(148) DECOQ A. ,MONTREUIL J. ,BUISSON J. ,Le droit de la police, Litec,2eme ed.
1998,p. 691,no. 1400.
(149) MOLINA E. ,op. cit. ,p. 481,no. 462.
ً آخر على ارتكاب جريمة”. (١٥٠) عرفت المادة (/١/٨٠أ) من قانون العقوبات ِ المحرض على أنه: “من حمل أو حاول أن يحمل
شخصا
(151) PRADEL J. , Procedure penale,op. cit. ,p. 393,no. 449.
(١٥٢) انظر في موانع المسئولية وموانع العقاب الواردة في قانون العقوبات، المواد من ٨٥ إلى .٩٤
(153) BOUZAT P. , La loyaute dans la recherche des preuves,op. cit. ,p. 165,no. 14.
ً إلى الإكر
وا اه المعنوي فإنه يعترض ذلك ٕ (١٥٤) ذا تصورنا إعفاء الفاعل ( َّ المحرض) من العقاب استنادا
ً يعدم حرية الاختيار. فالقانون =
اشتراط القانون في الإكراه المعفي من العقاب أن يكون جسيما
ارتكاب الجريمة بالموت العاجل أو أي ضرر بليغ يؤدي إلى تشويه أو تعطيل أي عضو من =يشترط في التهديد المعفي من العقاب أن يجعل الفاعل يعتقد، ضمن دائرة المعقول، حين
أعضائه بصورة مستديمة فيما لو امتنع عن ارتكاب الجرم المكره على اقترافه”(المادة ٨٨ من
قانون العقوبات).
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٧٤
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
يتضح مما تقدم مدى خطورة النتائج التي تترتب على إقدام رجال السلطة العامة على
التحريض على ارتكاب الجرائم، إضافة إلى أن تعارض التحريض مع مقتضيات النزاهة التي
يجب أن تحكم عمل هؤلاء في البحث عن أدلة الجرائم، فيتنافى دون أدنى شك التحريض مع
وظيفة مأموري الضابطة العدلية المتمثلة في مكافحة الجريمة لا التحريض عليها.
ب) حدود التحريض المحظور.
يتعين من أجل الوقوف على التحريض المحظور إعمال التفرقة بين التحريض على
الجريمة، والذي يعد بدوره جريمة، والتحريض على الدليل الذي يخرج عن نطاق التحريض
. (١٥٥) المحظور
ً من وقوع الجريمة، أي
ً سلبيا
ومن المتفق عليه أن اتخاذ مأموري الضبط القضائي موقفا
ترك الجريمة تقع تحت مراقبتهم من أجل القبض على جميع المساهمين فيها في حالة التلبس،
لايدخل ضمن التحريض على ارتكاب الجريمة، فيتطلب التحريض الذي يحظره القانون
. (١٥٦) مساهمة إيجابية في وقوع الجريمة
ً عندما يقوم مأمور الضبط القضائي بفعل إيجابي،
لكن تصبح المسألة أكثر تعقيدا
وبالإمكان ضرب الأمثلة الآتية لبيان مدى صعوبة التفرقة بين التحريض المحظور وذلك
المشروع :
تقديم مأمور الضبط القضائي نفسه إلى مشتبه به بحيازة أشياء يحظر القانون حيازتها
ً رغبته بشراء هذه الأشياء
، أو استعانة الضابطة العدلية بامرأة للسير وهي تحمل (١٥٧) مدعيا
حقيبة في مكان وقعت فيه عدة سرقات من خلال انتزاع حقائب السيدات اللاتي يسرن في هذا
(155) MOLINA E. , op. cit. , p. 485,no. 468.
(156) PRADEL J. , procedure penale,op. cit. ,p. 394,no. 449.
(157) (157) PRADEL J. , procedure penale,op. cit. ,loc. cit.
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٧٥
المكان، أو الاستعانة بالمجني عليه من أجل استدراج المشتبه فيه بارتكاب جرائم خطف بقصد
الحصول على فدية، أو ترك سيارة دون قفلها في مكان تكثر فيه سرقة السيارات. فهل تعد مثل
ً على الجريمة أو هي من قبيل التحريض على الدليل؟
هذه الأعمال تحريضا
والحق أنه يتعين على القاضي أن يتبين في كل واقعة، عندما يطرح أمامه مثل هذا
التساؤل، عما إذا كان التحريض قد أدى إلى وقوع الجريمة، أم أن دوره قد توقف عند جمع
ً من ذلك سيكون بإمكان القاضي أن (١٥٨) أدلة جريمة قد وقعت أو ب ىء بتنفيذها ُد
. وانطلاقا
يقرر أن التحريض غير محظور إن كان هدفه الوصول إلى أدلة الجريمة، ويتحقق ذلك في
“التحريض”الذي يأتي بعد وقوع الجريمة أو في أثناء وقوعها فيمنع الاستمرار بها، بينما يكون
ً الت عندما يؤدي إلى وقوع جريمة ما كانت ستقع لولا تحريض مأمور الضابطة
حريض محظورا
العدلية.
ونخلص من كل ما تقدم إلى أن النزاهة قيد على عمل السلطات المختلفة في البحث عن
الأدلة، سواء أكان المقصود عمل الضابطة العدلية أم الجهات القضائية. وتمثل النزاهة أحد
القيود المهمة على حرية الإثبات الذي هو الأصل الذي يجري عليه إثبات المسائل الجزائية،
لكن طبيعة البحث عن الأدلة في مرحلة التحقيق الأولي تدفع نحو تضييق الدور الذي يمكن
للنزاهة أن تؤديه في تقييد عمل الضابطة العدلية في البحث عن الأدلة لمصلحة التوسع في
حرية الإثبات، الأمر الذي مكننا من القول بأنه يتعين أن يكون للنزاهة أثر نسبي عندما تتعلق
في هذه المرحلة من التحقيق، لكن في الأحوال جميعها يتلاشى دور النزاهة في تقييد حرية
البحث عن الأدلة عندما يضطلع شخص عادي في البحث عن الدليل.
(158) MAISTRE du CHAMBON P. , La regularite des provocations policieres: l evolution de
la jurisprudence,J. C. P. 1989. I. 3422
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٧٦
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
الفرع الثاني
تقييد بحث الأشخاص العاديين عن الدليل بالتراهة
ينحصر التنظيم القانوني للبحث عن الأدلة بتنظيم الإجراءات التي يقوم بها أفراد السلطة
العامة، من مأموري الضابطة العدلية أو أعضاء النيابة العامة أو قضاة الحكم، للوصول إلى
أدلة الجريمة؛ و لايمتد هذا التنظيم لكي يطال الدور الذي قد تؤديه الأطراف الخاصة في
الدعوى الجزائية للبحث عن الدليل، الأمر الذي يستدعي طرح التساؤل الآتي: هل يقيد مبدأ
النزاهة مساهمة الأطراف الخاصة في البحث عن الدليل؟
ً الحق أن نظام الإجراءات ذا على أن الدعوى
الطابع التفتيشي أو التنقيبي يقوم تقليديا
الجزائية هي مسئولية الدولة، وليس للأطراف الخاصة في هذا النظام دور مهم في الدعوى.
ً . فعلى الرغم من أن السلطة المخولة لهذا النظام المفاهيم التقليدية ذاتها
غير أنه لم يعد حاليا
بالتحقيق تبقى في النظام التفتيشي هي المخولة بتقرير السير في التحقيق في الوجهة التي
ً في البحث عن الدليل الذي
تساعد على كشف الحقيقة، فإنه يمكن للمجني عليه أن يؤدي دورا
يمكن الاستناد إليه في الحكم بالإدانة، الذي يكون بإمكانه من خلال ذلك سد النقص الذي قد
يعتور عمل أجهزة السلطة العامة. ويساعد تطور الوسائل العلمية والتقنية في زيادة أهمية دور
ً بسبب عدم تقييد المجني عليه بالقيود التي تحد من
المجني عليه، و يتعاظم هذا الدور أيضا
حرية الإثبات التي تقيد السلطة العامة.
فالمجني عليه يمتلك من خلال تسجيل المكالمات أو الاستعانة بكاميرات المراقبة أو
أجهزة التصوير….إلخ وسائل فعالة تساعد في الكشف عن مرتكب الجريمة التي وقعت ضده
. لكن استخدام هذه الوسائل يشوبه عدم النزاهة، وربما يمثل استخدام (١٥٩) والوقوف على أدلتها
بعضها جرائم يعاقب عليها القانون.
(159) AMBROISE – CASTEROT C. ,Recherche et administration des preuves en procedure penal:
la quete de Graal de la verite,A. J. penal 2005,p. 261
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٧٧
بينما يقرر القضاء الفرنسي أنه ” لا يوجد بين القواعد القانونية ما يسمح للقاضي الجزائي
ً فقط إلى أنه قد تم الحصول عليها بطريقة غير
استبعاد أدلة الإثبات المقدمة من الأفراد استنادا
مشروعة أو ليست نزيهة، فالذي يتعين على القاضي القيام به هو تقدير القيمة الثبوتية لهذه
. وقد كان القضاء الفرنسي قد طبق (١٦٠) الأدلة بعد إخضاعها للمناقشة في مواجهة الخصوم”
هذا المبدأ لإضفاء المشروعية على الدليل المتحصل بواسطة مأمور الضبط القضائي. ففي
واقعة كان مأمور الضبط القضائي قد سجل محادثة دارت بينه وبين أحد المحامين الذي رغب
في لقاء مأمور الضبط القضائي، وقد جرى تسجيل هذه المحادثة دون علم المحامي، فأعلنت
ً بطلان الإجراء
. لكن أمام إصرار غرفة الاتهام على أن الإجراء (١٦١) محكمة النقض بداية
ً إلى أن مأمور الضبط
صحيح، عادت محكمة النقض عن قرارها الأول وقررت صحته استنادا
القضائي الذي قام بالتسجيل هو ذاته مجني عليه في الشروع بجريمة الرشوة الذي ارتكبه
ً المحامي، عليه يملك مأمور الضبط القضائي اللجوء إلى هذه الوسيلة من أجل
وبصفته مجنيا
، (١٦٢) بناء الدليل على الجريمة التي وقعت ضده
ويتضح مما تقدم أنه ليس لمبدأ النزاهة الذي هو قيد على عمل السلطة العامة في البحث
عن الدليل، الدور ذاته عندما يجري هذا البحث بواسطة المجني عليه؛ حيث يملك هذا الأخير
ٕ اللجوء إلى وسائل الإثبات كافة من أجل الوصول إلى الدليل على وقوع سنادها إلى
الجريمة وا
الفاعل وا ، ويستند هذا القول إلى مجموعة أسباب، أهمها: ٕ ن اتسمت هذه الوسائل بعدم النزاهة
:ً لا يعد البحث عن الدليل بواسطة المجني عليه من إجراءات البحث عن الأدلة،
أولا
فالمقصود بالإجراء، من الناحية القانونية، العمل الذي يقوم به ٍ قاض أو مأمور الضبط
ً (١٦٣) القضائي
ً أم ابتدائيا
. ويتحدد معنى إجراءات التحقيق ” بالتحقيق الرسمي” سواء أكان أوليا
(160) Crim. 30 mars 1999,D. 2000. 391,not GARE T. ; 11 juin 2002,D. 2003,chr. 1309.
(161) Crim. 16 dec. 1997, B. C. no. 427.
(162) Crim. 19 janv. 1999, B. C. no. 9.
(163) Crim. 17 mars 1987,D. 1987,somm. 409.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٧٨
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
،ً فهو لا يتضمن أعمال البحث عن الدليل الذي يقوم به الشخص العادي؛ لذا فإن
أم نهائيا
هذه الأخيرة لا يطالها البطلان حيث لا تخضع للنظام القانوني للبطلان.
:ً لا يعد ما يقدمه المجني عليه أمام القضاء من أجل إثبات الجريمة التي وقعت
ثانيا
التي تفتقد إلى الصفة الرسمية التي يتمتع بها (١٦٤) ضده دليل، إنما هو من قبيل الدلائل
؛ لذا فإن عدم (١٦٥) الدليل، هذه الصفة المستمدة من طبيعة السلطة المكلفة البحث عن الأدلة
ً يمنع تقديمها أمام
نزاهة الوسيلة التي تم بواسطتها التحصل على هذه الدلائل لا ينهض سببا
المحكمة التي يتعين عليها بدورها القيام بإخضاعها للمناقشة العلنية من قبل الخصوم، وتحكم
المحكمة حسب قناعتها إذا أيدت هذه الدلائل أدلة أخرى تدعمها.
ويتعين علينا التنبيه إلى ضرورة عدم الخلط بين ما يعد محل الجريمة أو جسمها الذي
يمكن أن يقدمه المجني عليه لإثبات وقوع الجريمة، كالسند المزور في جريمة التزوير، أو
ً الشيك في جريمة إصدار شيك بدون رصيد، أو
ً أو قدحا
أو التسجيل الصوتي لقول يمثل ذما
تحقيرا، والدلائل التي يسعى من خلالها المجني عليه إلى إثبات إسناد الجريمة للمشتكى عليه، ً
ً يصلح لإثبات وقوع
فهذه الأخيرة هي فقط التي تشكل موضوع بحثنا. فما قد يكون إذن دليلا
الجريمة قد لا يعد سوى دلائل يمكن الاستعانة بها لإثبات إسنادها للمشتكى عليه.
:ً يدعم السببين القانونيين المتقدمين سبب آخر مستمد من فاعلية المعاقبة. فإذا لم
ثالثا
يكن ثمة مانع قانوني يحول دون قبول مساهمة المجني عليه في إثبات الجريمة التي تقع
ضده، فإنه بالمقابل يمكن الاستفادة من الدور الذي قد يؤديه المجني عليه من ناحية تذليل
(164) Crim. 28 avril 1987,B. C. no. 173.
يقدمها الأفراد العاديون أمام القضاء. فهذه الصفة الرسمية هي التي تسمح، على سبيل المثال، (١٦٥) تضفي الصفة الرسمية للبحث عن الأدلة قوة ثبوتية على الدليل تفتقدها الأدلة التي يمكن أن
للمحكمة أن تحكم بالإدانة استنادا المشتكى عليه التي يؤديها أمام مأمور الضابطة ً إلى إفادة
قانون أصول المحاكمات الجزائية. العدلية، ويعترف فيها بارتكاب الجريمة إذا تحققت فيها الشروط التي تتطلبها المادة (١٥٩) من
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٧٩
الصعوبات التي قد تعترض عمل السلطة العامة في الوقوف على أدلة الجريمة، وكأن
ً يحول دون قبول الدليل الذي يقدمه
الاجتهاد القضائي الذي لا يرى في عدم النزاهة مانعا
. (١٦٦) المجني عليه يقوم على سبب ضمني مفاده أن إظهار الحقيقة يقبل مثل هذا الثمن
، من أحكام القضاء الفرنسي المتعددة التي تسمح بقبول الدليل (١٦٧) ويستنبط بعض الشراح
الذي تم التوصل إليه بوسيلة غير مشروعة، إلى أن محكمة النقض الفرنسية تضع ثلاثة
،ً أن يكون أحد الأطراف الخاصة
في الدعوى هو الذي تحصل (١٦٨) شروط لقبول الدليل:أولا
َّ تكون عدم مشروعية الوسائل المستخدمة على درجة كبيرة من الجسامة،
،ً ألا
على الدليل. ثانيا
ً في
،ً يتعين احترام مبدأ المواجهة استخدام العنف مثلا
ً الحصول على الدليل. ثالثا
فليس مقبولا
الذي يقضي بالسماح لأطراف الدعوى بمناقشة الدليل، ولاسيما خلال المحاكمة.
ً يمكن التساؤل في حضرة المبرر المستند إلى فاعلية المعاقبة على الجريمة
وأخيرا
ومتطلبات إظهار الحقيقة عن إمكانية أن يقاس على هذا المبرر لتمكين الضابطة العدلية
ً من التحرر من واجب احترام النزاهة في البحث عن الأدلة.
أيضا
الحق أن القول بعدم تقييد أعمال السلطة العامة بالنزاهة من أجل تحقيق فاعلية أكبر في
مكافحة الجريمة وا . فإذا كان بالإمكان ٕظهار الحقيقة ينطوي على خطورة ليس بالإمكان إغفالها
قبول مثل هذا القول عندما يتعلق بالبحث عن الدليل بواسطة المجني عليه، فلأن المجني عليه
ً من السلطات القسرية التي تملكها أجهزة السلطة العامة، فهذه الأخيرة تملك القيام
لا يملك أيا
، الأمر الذي (١٦٩) بالقبض والتفتيش والضبط…إلخ، وجميعها إجراءات تتسم بالقسر والإجبار
(166) MOLINA E. , op. cit. ,p. 495,no. 476
(167) PRADEL J. ,VARINARD A. , Liberte et loyaute de la preuve elements obtenus
par les plaignants ou partie civiles, in Les grands arrets du droit
criminel,Siery,4eme ed. ,2003,t. II, no. 16,p. 198.
ً غير مقيد بمتطلبات النزاهة؛ حيث إن قرينة البراءة
تمنح المشتكى عليه الحق في الصمت، والحق بالدفاع يجعل المشتكى عليه غير ملزم بقول (١٦٨) يمكن الإشارة إلى أن المشتكى عليه أيضا
الحقيقة.
(169) AMBROISE-CASTEROT C. , op. cit. ,p. 267.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٨٠
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
يتطلب ألا يتجاوز استخدام هذه السلطات الحدود التي يضعها القانون، ويتعين كذلك أن تراعي
السلطات العامة النزاهة عند مباشرتها. لكن لا يعني هذا القول أن الحاجة إلى فاعلية العدالة
ً دور
ً في المبادئ التي تحكم البحث عن الدليل، فكما رأينا، أن للنزاهة ا
الجزائية لم تترك أثرا
ً يتوافق مع فاعلية العدالة الجزائية.
نسبيا
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٨١
الخاتمة
ً مهمة في نظرية الإثبات. فلـم يعـد يلقـى، مـن حيـث المبـدأ،
ترك التقدم العلمي والتقني آثارا
ً على استخدام العديد من هذه الوسائل في إثبات الجرائم الجزائيـة، وتـزداد الحاجـة لهـذا
اعتراضا
ً يهـدد أمـن المجتمـع
ً شـاملا
ً تلـك التـي تمثـل خطـرا
الاسـتخدام مـع ازديـاد عـدد الجـرائم، خصوصـا
بأسره.
وا الإثبـات يمثـل، علـى الأقـل مـن الناحيـة النظريـة, الأسـاس الـذي يمكـن ٕذا كـان مبـدأ حريـة
الاستناد إليه للإفادة من الاكتشافات العلمية في الإثبات، فإن التساؤل حول الحدود التي يتعـين
ً؛ حيــث إن اللجــوء إلــى اســتخدام العديــد مــن أن تقــف عنــدها هــذه
الحريــة أصــبح تســاؤلا ملحــا
الوســائل العلميــة فــي الإثبــات يقــوم علــى إهــدار العديــد مــن حقــوق الإنســان؛ لــذا فــإن مصــلحة
المجتمـع الأكيـدة فـي مكافحـة الجـرائم تعترضـها ضـرورة المحافظـة علـى حقـوق الأفـراد، الأمـر
الذي يطرح ضرورة إيجاد التوازن بين هذه المصالح التي تتعارض في الكثير من الأحيان.
ولم يعد يكفي أمام ضرورة تحقيق التوافق المنشود التحصن خلف القول بأن حرية الإثبـات
تحكمها مشروعية الدليل.
ً
فــإذا كــان يجــري إثبــات الجــرائم، بحســب الأصــل، بوســائل الإثبــات كافــة، وســتغدو عمليــا
مكافحـة الجريمـة مهمـة مسـتحيلة إذا جـرى تحديـد صـارم للأدلـة التـي يمكـن اسـتخدامها، وسـتفقد
بالنتيجـة العدالـة الجزائيـة الكثيـر مـن فاعليتهـا، فـإن ذلـك يـؤدي إلـى أنـه يصـبح الأخـذ بكـل مـا
يستجد من وسائل علمية واستخدامه في إثبات الجرائم مسألة مبررة. غيـر أن مشـروعية الـدليل،
في دولة القانون، يجب أن تؤدي دورهـا مـن ناحيـة حمايـة حقـوق الأفـراد وحريـاتهم، الأمـر الـذي
يجعــل مــن ضــرورة احتــرام حقــوق الإنســان الســبب الأقــوى الــذي يســتند إليــه الــرأي الــرافض
لاسـتخدام الأدلـة العلميـة فـي الإثبـات، والتنكـر لهـذه الحقـوق ٕواهـدارها هـو الانتقـاد الأهـم الـذي
يمكن أن يوجه لهذا الاستخدام.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٨٢
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
والواجـب الملقـى علـى أجهـزة العدالـة الجزائيـة فـي حمايـة مصـالح المجتمـع يحـتم عليهـا أن
تتزود بوسائل فعالة لتحقيـق هـذه الغايـة. والحـق أنـه كلمـا ازدات خطـورة الجريمـة علـى المجتمـع
ازدادت الحاجـة إلـى اللجـوء للوسـائل الفعالـة، وعنـدما يتضـمن هـذا اللجـوء إهـدارا لـبعض حقـوق
الإنسان فإن ذلك سيكون، كما يصفه البعض، بمثابة اختيار أقل الضررين.
وقـد تبـين لنـا مـن خـلال هـذه الدراسـة عـدم كفايـة التمسـك بمشـروعية الـدليل للحيلولـة دون
وقــوع الاعتــداء علــى حقــوق الإنســان عنــدما يمثــل مثــل هــذا الاعتــداء ضــرورة تبررهــا مكافحــة
الجريمــة؛ لــذا يتعــين أن يخضــع البحــث عــن الــدليل لمبــدأ تحكمــه الأخــلاق، أي النزاهــة، وهــذا
المبدأ هو الذي يجب أن يحكم عمل السلطة العامة في البحث عن الدليل، لكنـه يكتسـب أهميـة
أكبر عندما يتعين تطبيقه فيما يتعلق باستخدام التقنيات العلمية.
ويظهـر الواقـع العملـي أن تقييـد البحـث عـن الـدليل بضـرورة مراعـاة النزاهـة ذو بعـد نسـبي،
فيضيق القيد كلما ظهرت الحاجة إلى فاعلية أكبر في البحث عن الدليل.
وتتجلى المشكلة بشكلها الأوضح في مرحلة التحقيق الأولـي الـذي يقـوده موظفـو الضـابطة
العدليـة. فكثيـرة هـي الأسـباب التـي تـدفع فـي اتجـاه القبـول بالأدلـة التـي يجـري جمعهـا فـي هـذه
المرحلة الإجرائية وا سائل الحصول عليها بعدم النزاهة. لكن، ومع تسـليمنا بـأن هـذه ٕ ن اتسمت و
ً ، فـإن الخشـية تبقـى ماثلـة مـن تعسـف لهـا فـي فاعليـة العدالـة الجزائيـة
ً متينـا
الأسباب تجد أساسا
أجهزة السلطة العامة إذا ترك لها مطلق تقدير الفاعلية، الأمر الذي يثير بالضرورة الحاجة إلى
إعادة تنظيم مرحلة التحقيق الأولي.
والحـق أن التنظـيم القـائم لإجـراءات البحـث عـن الأدلـة فـي مرحلـة التحقيـق الأولـي لـم يعـد
يلبي حاجات الواقع الحالي، فبحسب ما نعتقد أن إعـادة هـذا التنظـيم علـى أسـاس مبـدأ التناسـب
ً أكثر مواءمة للواقع من تنظيم البحث عن الأدلة الذي يتحدد بحسـب مـا إذا كـان التحقيـق تحريـ
ا
ً أو أنه تحقيق في حالة الجرم المشهود أو على إنابة قضائية
أنه تحقيق بناء . ً أو استدلالا
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٨٣
ً إليـه السـماح باسـتخدام
ويقتضـي التناسـب الــذي نـرى أن يجـري تنظـيم الإجـراءات اسـتنادا
ً على:
بعض وسائل الإثبات اعتمادا
– جسامة الجريمة من حيث مدى خطورتها على المجتمع،
– وطبيعة الجريمة من حيث مدى صعوبة إثباتها بالوسائل التقليدية.
الأمر الذي نعتقد بأنه سيحقق فاعلية أكبر في مكافحة هذا القسم مـن الجـرائم. ويـؤدي فـي
الوقت ذاته إلى تنظيم العديد من الإجراءات التي تقوم بها السلطة العامة، لكن استخدامها يثيـر
ً في ظـل غيـاب التنظـيم القـانوني. وأي تنظـيم فـي هـذا الاتجـاه لابـد أن يتضـمن فـي الوقـت
جدلا
ذاتــه الــنص علــى الضــمانات التــي يجــب مراعاتهــا بالنســبة للأفــراد الخاضــعين لهــذا النــوع مــن
ً إجــراءات البحــث عــن الــدليل، علــى الحقــوق
وألا يقــع اللجــوء إلـــى أكثــر الإجــراءات اعتــداء
والحريات، إلا بإذن السلطة القضائية الحارس الطبيعي للحقوق والحريات.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٨٤
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
قائمة المراجع
:ً باللغة العربية:
أولا
– أشرف توفيق شمس الدين، الجينات الوراثية والحماية الجنائية للحق في
الخصوصية، دار النهضة العربية، .٢٠٠٦
– أعمال مؤتمر الهندسة الوراثية بين الشريعة والقانون، كلية الشريعة والقانون، جامعة
الإمارات العربية المتحدة، مايو .٢٠٠٢
– حسام الأحمد، البصمة الوراثية، حجيتها في الإثبات الجنائي والنسب، منشورات
الحلبي الحقوقية، بيروت، الطبعة الأولى، .٢٠١٠
– حسام الدين الأهواني، الحق في احترام الحياة الخاصة، الحق في الخصوصية،
دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، د. ط.
– محمد يوسف علوان، محمد خليل الموسى، القانون الدولي لحقوق الإنسان، الجزء
الثاني، الحقوق المحمية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، .٢٠٠٧
– محمود عبد الرحمن محمد، نطاق الحق في الحياة الخاصة، دراسة مقارنة في
القانون الوضعي (الأمريكي، الفرنسي، المصري) و الشريعة الإسلامية، دار النهضة
العربية، القاهرة، د. ط.
– محمود محمود مصطفى، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، دار النهضة
العربية، القاهرة، الطبعة السابعة، .١٩٧٥
– محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، دار النهضة العربية،
القاهرة، الطبعة الثانية، .١٩٨٧
– مصطفى العوجي، حقوق الإنسان في الدعوى الجزائية، مؤسسة نوفل، بيروت،
الطبعة الأولى، .١٩٨٩
[د. معتصم خميس مشعشع]
[السنة السابعة والعشرون] [العدد السادس والخمسون- ذو الحجة ١٤٣٤ أكتوبر ٢٠١٣] ٨٥
– معتصم خميس مشعشع، إثبات الجريمة الإلكترونية، ندوة تقنية المعلومات، كلية
القانون، جامعة الإمارات العربية المتحدة، .٢٠١٠
ثانيا: باللغة الأجنبية:
– AMBROISE-CASTEROT, Recherche et administration des preuves en
procedure penale: la quete de la verite,A. J. pen. 2005,no. 7-8,p. 261.
– AMBROISE-CASTEROT, La prevue: Une question de loyaute? ,A. J. pen.
2005.
– ANCEL,Les problemes poses par l’application des techniques scientifiques
nouvelles au droit penal et a la procedure penale,Rapport aux journees francopolonaise,1966,p. 1.
– BADINTER R. ,La protection de la vie privee contre l’ecoute electronique
clandestine,J. C. P. I. 2435.
– BECOURT D. ,Reflexions sur le projet de la loi relative a la protection de la vie
privee,G. P. doc. ,201.
– BOUZAT P. ,La loyaute dans la recherché des preuves,Melanges
Hugueney,Seiry 1964.
– BLOND M. ,Les ruses et les artifices de la police au cours de l’inquete
preliminaire,J. C. P,1958,II,1419.
– CHAVANNE A. ,La protection de la vie privee dans la loi du 17 juillet 1970,R.
S. C. ,1971,p. 631.
– CONTE Ph. et DU CHAMBON P. ,Procedure penale,Armond Colin,4eme ed.
,2002.
– DECOQ A. ,MONTREUIL J. ,BUISSON J. ,Le droit de la police,LITEC,2eme
ed. ,1998.
– DELMAS-MARTY M. ,Proces penal et droit de l’homme,vers une conscience
europeenne,Puf,1992.
– De VALKENEER C. ,Manuel de l’enquete penale,Larcier,3eme ed. ,2006.
– FAGET J. ,Sociologie de la delinquance et de la justice penale,ERES,2005.
– GARRAUD R. ,Traite theorique et pratique d’instruction criminelle et
procedure penale,SIERY,1902.
– GUINCHARD S. ,BUISSON J. ,Procedure penale,LITEC,2eme ed. ,2002.
– KOERING-JOULIN R. ,La dignite de la personne humaine en droit penal,in La
degnite de la personne humaine,ECONOMICA,1999.
– LESCLOU V. ,MARSAT C. ,Du proces penal et du juge a propos des
empreintes genetiques. Dr. pen. ,1998,no. 6,p. 5.
– LEVASSEUR G. ,Les methodes scientifiques de recherche de la verite, R. I. D.
P. ,1972,p. 347.
[إثبات الجريمة بالأدلة العلمية]
٨٦
[مجلة الشريعة والقانون] [كلية القانون – جامعة الإمارات العربية المتحدة]
– MAISTRE Du CHAMBON P. ,La regularite des provocations policieres:
l’evolution de la jurisprudence,J. C. P. ,1989. I. 3422.
– MERLE R. ,VITU A. ,Traite de droit criminel,T. 2,procedure penale, C. U. J. A.
S. ,4eme ed. 1984.
– MOLINA E. ,La liberte de la prevue des infractions en droit francais
contemporain,PUAM,2001.
– PORTERON C. ,Droit a l’information et procedure penale,These Nice, 2002.
– PRADEL J. , Les dispositions de la loi no. 70-643 du 17 juillet 1970 sur la
protection de la vie privee, DALLOZ,1971-I-111.
– PRADEL J. ,Procedure penale,CUJAS,10eme ed. 2001.
– PRADEL J. , Un control tres strict des ecoutes telephoniques par la Cours de
Strasbourge,DALLOZ 2005,no. 26,juris. ,p. 1755.
– PRADEL J. ,DANTI-JUAN M. ,Droit penal special,CUJAS,3eme ed. ,2004.
– PRADEL J. ,VARINARD A. ,Les grands arrest du droit criminel, T2, SIERY,
1988.
– RASSAT M-L. ,Procedure penale,PUF,2eme ed. ,1995.
– SAINT-PIERRE F. ,Le guide de la defense penale,Dalloz,5eme ed. ,2007.
– SURDE F. , Droit international et europeen des droit de l’homme,PUF, 4eme ed.
,1999.
– SUSINI J. ,Place et porte du polygraphe dans la recherche judiciaire de la verite,
R. I. D. P. ,1972,p. 255.
– VALETTE V. ,La personne mise en cause en matiere penal,L. G. D. J. ,2002.